• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

أخطاء لابد أن تُصحح

أسرة البلاغ

أخطاء لابد أن تُصحح

◄في تعاملنا اليوميّ أو الاجتماعيّ نرتكب عدداً من الأخطاء في حقّ مَن يصنعون الجميل لنا ولمجتمعهم، قد لا تكون أخطاء عمديّة، بل تقليد اجتماعي خاطئ رأينا الآخرين يصنعونه كذلك فصنعنا مثلهم.

إنّ مقابلة الإحسان الماديّ ليس بالضرورة إحسان ماديّ مثله، فقد لا نجد ما نكافئ به مادياً؛ لكنّنا نجدُ دائماً ما نكافئ به معنوياً وهذا ما عناهُ الشاعرُ بقوله:

لا خيل عندَك تُهديها ولا مالُ *** فليسعفُ النطق إنْ لم يُسعف الحالُ[1]

هذه بعضُ أخطائنا، عسى أن نعمل على تلافيها أو تفاديها مستقبلاً:

 

1-    المُبالغة في الثناء:

الإسلامُ دينُ الاعتدال، وكلُّ شيء يزيد عن حدّه ينقلبُ إلى ضدّه، فالمبالغة في الثناء – شئنا أم أبينا – توقعنا في الكذب، صحيح أنّ الشعراء اعتادوا على وصف المحبوب بأوصاف مغالية كجزء من فن الأسلوب في تبيان محاسن الممدوح بأكبر ممّا هي عليه في الواقع، وقد يُغفر لهم ذلك لأنّه مسحة جمالية تضاف إلى الوجه الجميل ليبدوا أجمل، كما هي أدوات الزينة، وللخلق الحسن ليظهر أحسن وأكثر محبوبيّة، فالمبالغة الخفيفة معقولة ومقبولة.

لكنّ المبالغة في الإطراء، والمغالاة في الثناء تجعل مَن تغالي في مدحه يصدّق أنّه فعلاً  كما وصفت فيأخذهُ الغرور، وقد يبطر ويفجر، إذ قد تكون تلك بداية (الإنتفاخ) الذي يجرّ معه ما يجرّ من مصائب وويلات، يقول الإمام عليّ (ع): "الثناء بأكثر من الاستحقاق ملق" والتملّق أقرب جيران الكذب.

في (يوميات حميمية) لـ(بنجمان كوستاف):

"عموماً، لاحظتُ أنّه ينبغي شكر البشر أقلّ ما يمكن، لأنّ الشكران الذي نكنّه لهم يقنعهم بيسر بأنّهم يكثرون منه، ورأيتُ غير مرّة أناساً يتراجعون وسط عمل جيِّد لأنّ أولئك الذين يقدِّمونه إليهم كانوا يبالغون في مداه"!

 

2-    التقصير في الثناء والمكافأة:

وهذا عكسُ ذاك، فكما أنّ المبالغة في الثناء، تُخرجُ التقييم الموضوعي عن موضوعيته، فإنّ التقصير فيه تعبير عن بخل في المشاعر، وعن جفاء وجفاف في الأدب الإنساني، وكما أنّ ذاك قد يدفع إلى التهاون في العمل، فإنّ هذا قد يثبّط العزائم ويهبّط الهمم، وبالتالي، فإنّ الاعتدال هو الحلّ.

لنستكمل إذاً مقولة الإمام عليّ (ع): "الثناء بأكثر من الاستحقاق ملقْ، والتقصير عن الاستحقاق عي وَحَسد"!

لنعمل كما يعمل المعلم في المدرسة، إنّه يعطي التلميذ درجتهُ التي يستحقّ، فبمقدار عطائه يعطيه، وبذلك يعرف الطالب أنّه نال استحقاقه جزاءً وفاقاً، أمّا الثناء العاطرُ للذين ينالون الدرجات العالية فهو من بعض استحقاقهم، وهو عامل تحفيز لمزيد من النجاح والتفوّق، وهو باعث للهمم الخاوية أو المتكاسلة عسى أنّ تنفض عنها غبار الكسل والاسترخاء.

هذا من جانب المثني أو (المادح)، إمّا من جانب المُثنى عليه أو (الممدوح) فقد عالج موقفه بعض الذين ربّوا أنفسهم تربية عالية بأحد الطرق التالية أو بكلّها مجتمعة: أحدهم كان إذا مَدحَهُ مادح، يقول: "اللّهمّ أجعلني خيراً ممّا يظنّون، ولا تؤاخذني بما يقولون، واغفر لي ما لا يعلمون"! وكان الآخر إذا مَدحهُ الناسُ، قال: "اللّهمّ كلّما رفعتني في أعين الناس درجة إلّا حططتني مثلها في نفسي درجة، اللّهمّ وكلّما أحدثتَ لي عزّاً ظاهراً فأحدث لي مثلهُ ذِلّة باطنة"!

وبذلك تتوازن الكفّتان، ويكون الذي يتلقّى المدح كسائق السيّارة يعرفُ متى يستخدمُ كوابحها حتى لا تتسبب سرعتُها السريعة في حادث مؤسف ربّما يؤدي بحياة السائق نفسه!

 

3-    التأخير في الثناء والمكافأة:

كم  كان الإسلامُ موضوعياً، وخبيراً نفسياً فذّاً حينما قال: "أعط العامل أجره قبلَ أن يجفّ عرقهُ"!

إنّ العامل هو يتقاض أجره في اللحظة التي ينفضُ فيها يده من عمله – ولعلّك لاحظت هذا بنفسك – يداخلهُ سرورٌ يُنسيه أتعابَهُ كلّها، فكأنّه لم يتعب!

أمّا إرجاءُ الدفع، أو تسويف العامل، وإلجاؤه إلى المطالبة بأجره بنفسه، فعلاوة على أنّه منافٍ للذوق السليم، ومخلّ بأصول التعامل الإنساني، فإنّه يزيدُ في أتعاب العامل أتعاباً وكأنّه لم يُنهِ عَمَله. فهو في الوقت الذي يتوقّع فيه المكافأة تُحجب عنه، أو تُبيت لوقت آخر لا يجدُ فيه طعم المكافأة الطازجة!!

الشكرُ الفوري، والمكافأة في حينها ووقتها المناسب لها طعمُ الفاكهة المقطوفة للتو، ونكهتها الفتيّة، وهي أهنأ لنفس العامل وأرضى لحاجته إلى التقدير، في الأمثال الروسيّة مثلٌ يقول: "لا يمكنك الاحتفاظ بكلمة الشكر في جيبك".. ذلك أنّ مكانها ليس في (الجيب)، بل أن تتراقص نغماً حلواً على الشفتين، وعطاء مجزياً باليدين.

 

4-    الثناءُ عن طريق وسيط:

المباشرةُ في الثناء لها وقعها اللذيذ على أذن وقلب المستمع أو المتلقي، فالذي أحسن إليك أحسن إليه بنفسك، بهذا تكون شكرته على ما صنعه من معروف معك، لتزيد بذلك في معروفه ولتتوطّد العلاقةُ بينكما أكثر فأكثر.

أمّا إذا حمّلت شخصاً رسالة الثناء بشكل شفوي فقد لا يجيدها  كما تجيدها أنت، باعتبارك أكثر تقديراً منه لها، فحتى إذا أجاد تقديمها فإنّه لن يقدِّمها بنفس الحرارة التي تقدِّمها أنت كمتنعم بالإحسان.

حضورك شخصياً لشكر إنسان محسن يترك أثراً نفسياً إيجابياً عميقاً في قلبه، أمّا الرسولُ أو الدليل فهو لا يفيض من قلبه، بل من لسانه، وشتّان بين ما ينبعُ من القلب ويفيض به اللسان، وبين ما تردّده بالتلقين البارد الشفتان!

 

5-    تغليب النقد على الثناء:

النقد أن تقدِّم الوجهين: الإيجابي والسلبيّ، ليتمّ تعزيزُ الأوّل، وتفادي الثاني، وهذه هي الموضوعية البنّاءة في النقد.

لنتأمّل في أساليب التعاطي مع النقد من زاوية اجتماعية:

·      هناك مَن يُقدِّم الثناء؛ لكنّه يقدِّمه موجزاً وعلى استحياء، وبكلمات عموميّة مُختزلة، حتى إذا جاءَ دورُ السلب فصّل فيه تفصيلاً مملاً، فكأنّه يقرأ في صحيفة الأعمال!

·      هناك مَن يدخلُ في السلب مباشرةً ويستفيضُ فيه فكأنّما ينحدرُ كالسيل، حتى إذا وصل إلى الإيجاب، قال بلهجة باردة عاجلة: هذا لا يعني أنّ العمل لا يخلو من الإيجابيات، وقد يمرّ على بعضها مرور الكرام بما لا يرتفع في وقعه النفسي إلى مستوى ما سببه من كدمات وجروح نفسية للمنتقد.

·      هناك مَن يرى العيوب والثغرات والنقائص؛ لكنّه يوازن بينها وبينَ الإيجابيات ونقاط القوّة، فيعطي لهذه حقّها، ويعطي لتلك حقّها بالإنصاف والتناسف، وهذا عدل.

·      ومن الناس مَن يذكر هذا ويذكر ذاك بشيء من التوازن؛ لكنّه (يقسو) في نقد السلبيّات، و(يتراخى) في الثناء على الإيجابيات.

القرآنُ الكريم يعلِّمنا الأسلوب الوسط، فلقد عاتب النبي (ص) في إعراضه عن الأعمى في (عبس وتولّى) بشدّة؛ لكنّه أثنى عليه بشدّة أيضاً في قوله تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم/ 4).!

والمسألة مرّة أخرى، مسألة الاعتدال والتوازن، كما هو الملحُ في الطعام: إن زاد أفسده، وإن قلّ أفسده، وخيرُ الأمور أوسطها.

 

6-    الشكر على وتيرةٍ واحدة:

الشكر الجماعي لفريق عمل أنجز مهمّة معيّنة جميل ومشجّع وحقّ وعدل؛ لكنّ الثناء على الجميع بنفس الدرجة، أو مكافأة الفريق كلّه بذات المستوى من التكريم لا يخلو من إجحاف بحق الذين أبلوا بلاءً حسناً.

البعض من أجل لا يغيض أو يغضب الجماعة يُغمطُ حقّ الفرد المتميز فيها، هل كان النبيّ (ص) منحازاً لعمّار بن ياسر – رضي الله عنه – حينما أثنى عليه لأنّه رآه يحملُ لبنتين فيما يحمل الآخرون لبنة واحدة لبناء المسجد النبويّ في المدينة؟ هل كان يحاول إغاضة بقية المسلمين أو استثارة غيرتهم السلبيّة؟ أم هو تكريم للمحسن حتى يتعلّم الأقلّ إحساناً الدرس عسى أن يحذى حذوه، ولذا قيل: "لا يكوننّ المحسنُ والمسيء عندكَ بمنزلةٍ سواءٍ، فإنّ في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة، وألزم كلاً منهم ما ألزم نفسه"[2]، وكذلك لا يكوننّ المحسنون بدرجة سواء إذا لم يتساوو في الأداء.

القرآن الكريم يُميِّز بين الاثنين في تعبيرات تتردد في ثناياه بـ(لا يستويان) و(لا يستويان مثلاً) أو (هل يستويان) و(لا يستوي).. كلّ ذلك في باب المفاضلة، واللهُ لا يستحي من الحقّ.

فريق العمل إذاً يُشكر شكرين: شكراً جماعياً على ما حقّقهُ، وشكراً استثنائياً نخصُّ فيه بالذكر وبالشكر أولئك الذين كانت لهم أيادي بيضاء، وأدوار مميّزة، ومواقف مشرّفة ووقفات مجلّية، وبذلك نكون قد وفّينا الجميع حقوقهم من الشكر والمكافأة.

 

7-    الثناء الإنفرادي:

في نفس المثال السابق، البعض لا ينسى للذين قاموا بأدوار متميّزة حقوقهم من الرعاية والتقدير والشكر؛ لكنّه بدلاً من أن يكافئهم على مرأى ومسمع من الجميع، وبحضور أعضاء الفريق كلّهم، يستدعي المتميّز أو المتميزين ليثني عليهم أو يكافئهم في غرفةٍ مغلقة، أو بشكل انفرادي مخافة أن (يزعل) الباقون.

هنا، استهانة بزعل الكفوء أو بحقه بأن يُكرّم ويُفتخر به أمام زملائه، ومراعاة أو مداراة لمشاعر الذين لم يحسنوا كما أحسن، ممّا يشعر الجميع أنّهم أحسنوا على درجة متساوية من الإحسان، والحال ليس كذلك.

الإحسان هنا علني، ولذا يُفترض أن تكون المكافأة علنية أيضاً، أمّا ما يُراد التكتّم عليه من إحسان خشية المراءاة، أو لأي سبب آخر، فهو موضوع آخر غير هذا.

 

8-    الشكر اللّاأُبالي:

في المجالس العامّة، وفي المطاعم والمقاهي، وحينما تكون مع شخص آخر أو أشخاص آخرين ويتولى أحدهم خدمتك: أحد أفراد الأسرة، أو النادل في المطعم، أو الصبيّ في المقهى، أو المضيّف في المضافة، فتتناول منه الشيء المقدَّم لك وتقول كلمة الشكر وأنت لاهٍ ساهٍ ومنصرف عن صاحب الخدمة مشيحاً بوجهك عنه.

هنا.. أنت لا تشكر، بل تردِّد كلمة الشكر بطريقة (ببغاوية) بدليل أنّك تستعملها كجملة اعتراضية سرعان ما تعود بعدها إلى استكمال حديثك مع جليسك.

إنّ من حقّ مَن يخدمك، ولو كان قريباً، وحتى لو كانت الخدمةُ محصورة بكأس ماء أو قدح شاي، أو فنجان قهوة، أن تنظر في وجهه وتقول كلمة الشكر مشفوعة بابتسامتك، هذا أدعا لراحته النفسيّة، وشعوره أن خدمته في موقعها الصحيح ولمن يستحقّها.

 

9-    إغفال الشكر على الأعمال التطوّعية:

البعض ينظر إلى الأعمال التطوّعية كما لو كانت (خدمة إلزاميّة) لا تستحق الشكر، كخدمات الزوجة والأولاد، فمع أنّ أعمال الزوجة في الغالب تطوّعية ولا تتقاضى عليها أجراً مع استحقاقها للأجر (وجهة نظر إسلامية)؛ لكنّها تُصدم أحياناً ببخلٍ عمدي أو غير عمدي في الثناء على مجهودها، والحال أنّها تستحق شكرين بدل الشكر الواحد: وشكر لإحسانها لأسرتها في أنّها أبدعت وقدّمت أحسن ما لديها على طبق من الحبّ الخالص.

وكذلك الحالُ مع الأولاد، فهم إذا نشأوا في بيت لا يلهج بالشكر أو لا يقوله في موقع استحقاقه، فسوف لن يكونوا بأفضل من ذلك الصبيّ الذي لم يقل لمصوّره شكراً!

 

10-                    الاستهانة بشكر العمل الصغير:

الأعمال لا تقاس بحجومها الخارجية، بل بطبيعتها الإنسانية، وبما يراد بها من رضا الله، وكلّ عمل فيه منفعة للناس فهو رضا لله، وما دامت النظرة هذه، فالعمل كبير مادام في هذا الإطار، ولذلك جاء في الحديث: "لا تحقرنّ من المعروف شيئاً".

البعض لا يتقدّم بالشكر إلّا لمن قام بإنجاز عظيم، أو بعملٍ جبّار، أمّا الأعمال التي يراها صغيرة، أو يوميّة، أو رتيبة فهي خارج دائرة الشكر.

إنّ إهداء طاقة الريحان في قصة الإمام الحسن (ع) مع جاريته، وتعليم سورة الفاتحة في قصة الإمام الحسين (ع) مع عبدالرحمن السلمي، قد لا تبدو في نظر البعض أعمالاً جليلة؛ لكنّنا لاحظنا كيف كان الشكر أضعافاً مضاعفة، وبما لا يقاس بحجم تلك الأعمال.►


[1]- ورد البيت أيضاً بـ(يُسعد) بدلاً من (يسعف): لكنّنا نفضل الثاني.

[2]- نهج البلاغة، من كتاب أمير المؤمنين (ع) لعامله على مصر مالك الأشتر (رض).

ارسال التعليق

Top