• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الحج.. ترسيخ لقيم التواضع والمساواة

حسين علاوي

الحج.. ترسيخ لقيم التواضع والمساواة

◄الحجّ ركن من أركان الإسلام الخمسة، التي ثبتت أصولها بالكتاب والسنّة، وقد عرّف بتعاريف متعدّدة أجمعها وأشملها ما جاء في كتب الفقه من أنّ الحجّ هو قصد مكة لأداء عبادة الطواف والسعي والوقوف بعرفة، وسائر المناسك استجابة لأمر الله وابتغاء مرضاته..

والكتب المقدّسة تذكر أنّ أوّل من بنى البيت، وأقام أركان الكعبة هما إبراهيم وابنه إسماعيل – عليهما السلام – بعد أن أوحي إليهما.. وأدركا أنّ البناء الذي أقاماه لم يكن رصّاً للأحجار وتعلية للجدار.. فجهرا بالدعاء وهما يبنيان القبلة، أن يقبل الله منهما ما عملا وما جهدا في طاعة أمره وإبلاغ وحيه.. ثمّ رغبا إليه حين انتهيا من الرفع والتشييد أن يعلمهما مناسك العبادة التي وضع لها هذا البيت فعلمهما، فكانت الكعبة أوّل بيت للعبادة وضع في الأرض، ثمّ أُمر إبراهيم أن يؤذن في الناس بالحجّ، وضمن الله سبحانه أن يستجيب الناس للنداء.. فأقبلوا على الحج مشاةً وركباناً يحملون الأجساد والقلوب والتقوى.. ثمّ ظلّت تلك الاستجابة تزداد مع كلِّ عام.. حتى أقرّ مؤذن الرسالة الخاتمة أن تستمر الفريضة بعد أن تتضح معالمها من الإبهام الذي غشيها.. وتنتفي أكدارها من الرّين الذي أصابها.. فكانت الدعوة الأولى في دائرة أبي الأنبياء، والدعوة الثانية في دائرة خاتمهم.. فأسمعت الأولى قوم إبراهيم في حدود البلدان التي هاجر إليها.. واتبعه من أهلها.. أما الثانية فقد أسمعت الخليقة كلّها.

"وخطّ الإمامان الأولان مشرعاً للحنفية الأولى، وقاما لها في أرض العرب إرهاصاً للمطلع الذي تطلع منه دعوة الختام التي صرخت في العرب والعجم، للحفاظ على ما استفاض عن الإمامين من المسالك والمناسك في قول الرسول (ص): "قفوا على مشاعركم فإنّكم على إرث من أبيكم إبراهيم"[1].

ولاشك انّ في سيرة الحج إلى مكة منذ إبراهيم إلى محمد (ص) لم ينكرها التاريخ بل أكّدها قولاً وفعلاً..

وللحج شروط بوجودها يجب، وبانعدامها ينعدم الوجوب، منها الإسلام والبلوغ والعقل والحرية والاستطاعة.. والشروط الثلاثة الأولى من شروط التكليف في كلِّ عبادة.

وأما الشرط الرابع فقد زال بزوال العبودية.. بعد أن جاء الإسلام مرغباً في العتق.. أما الشرط الأخير فهو الاستطاعة وهي القدرة المادية مصداق قوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا) (آل عمران/ 97).

والحجّ هو مظهر من مظاهر مجاهدة الفرد لميوله الشخصية.. وطموحاته التي قد تتعارض والمصالح العامة.. فالزيّ الذي يرتديه الحاج بصرف النظر عن مركزه الاجتماعي يدخل في شكله البسيط ولونه الملائكي في عملية عميقة جذورها عميم نفعها ألا وهي عملية توحيد فصائل المجتمع؛ لأنّ المجتمع الإسلامي هو مجتمع لا يعترف بالقوميات.. ولا بالطبقيات.. ووحدة الأدعية.. ووحدة المشاعر.. وتجمع المسلمين في مكان واحد هي من الأهداف الكبرى التي تهدف شريعة القرآن إلى زرعها في رحاب المجتمع الأكبر حتى يكون مجتمعاً متّحداً عقيدة وسلوكاً وأخلاقاً.. مجتمعاً يتفاوت فيه الناس بحسب أعمالهم وأهدافهم من وراء أدائهم لتلك الأعمال.

 

الحجّ مؤتمر عالمي:

وبالإضافة إلى كونه منهجاً تربوياً يغرس في نفس المسلم المشاعر الإنسانية العالية، والأخلاق الحميدة الفاضلة، فهو أيضاً لقاء يكتسب منه المسلم ثقافة اجتماعية، وفوائد مسلكية، ومنافع مادية قد تنجر عنها بركة عظيمة، وفوائد جمّة لشعوب إسلامية بكاملها، إذ قد تعقد فيه المعاهدات التجارية، كتبادل البضائع ممّا ينشط الاقتصاد الإسلامي..

ولم يكن هذا ليقع لولا تعارف المسلمين بسبب اجتماعهم المبارك لأداء هذه الفريضة المباركة. ذلك أنّ في تعارف الشعوب الإسلامية وتبادلها الآراء وطرحها لمشاكلها ما يقرب شقّة الخلاف إن كان هناك خلاف، وإذا انعدم الخلاف عمّ التفاهم ووحدت الغايات واتحدت المناهج.

إلّا أنّ الحديث عن العبادات والشعائر وما يتعلّق بها غدا حديثاً ناقصاً ومملاً لدى الكثيرين.. لأنّه توقف أو كاد عند عتبة الحلال والحرام، والثواب والعقاب، أو تحت مظلّة الشكليات التي تقيم هيكل العبادة دون أن تبثّ الروح فيها.. ممّا أورث تصوّراً خاطئاً عن العبادة أشبه ما يكون بالطقوس في الأديان الأخرى..

ومن هنا فإنّ إعادة قراءة هذه العبادات والشعائر قراءة تستوحي أهدافها التربوية.. وأبعادها النفسية.. ومفرداتها العملية.. ووظيفتها التربوية والاجتماعية والسياسية والتنظيمية.. أصبحت ضرورة يلح الواقع عليها.

وممّا يؤكّد هذه الأهمية أنها تمثّل ركناً أساسياً من أركان النهوض بالشخصية المسلمة بما تتركه من آثار في النفس الإنسانية، وبالمجتمع الإسلامي بما تمليه من قواعد تنظيمية وتكافلية.. فمعرفتها بالصورة المقنعة المتوازنة بين الطرح المتكرّر والمفرط لشكلياتها.. وبين الجانب الغائب مما وراء هذه الشكليات جدير بأن يعزّز المسير في اتجاه الوعي الإسلامي النهضوي المتوازن والمتكامل.

 

الحجّ ثورة على العادة..

الحجّ ثورة موظّفة لمعنى يتجلّى من وراء تقنينها بالسلوكيات والشكليات والرمزيات.. ثورة ضد التقليد الذي يسير عليه الإنسان بجميع أشكاله ليعيش نمطاً جديداً من الحياة في أيام، فحمل من إيحاءاتها ما يثقل وزنه في سلوكه ووجدانه..

فاللحظة الأولى فيه لحظة تخيله الواعي الممنهج عن اللباس والطيب وأسباب الزينة وملذّات الدنيا.. وليس رداءً وإزاراً أبيضين غير مخيطين يمثِّلان الاستسلام لله طواعية قبل الاستسلام له كراهية عند الموت في لباس شبيه.. إقبال على الله بفتح صفحة جديدة من العمل محفوفة بالأمل الذي لا يلغي من حسبانه ساعة الموت، الذي هو صفحة جديدة أيضاً ولكن من حساب قديم..

والمناسك التالية لهذه الخطوة تأكيد لها، وتسديد لمستقبلها المنشود في حياة جديدة منتظمة قائمة على منهج الله، وتكرّس في نفس صاحبها روح الخير والبذل والعطاء من خلال ما يغدقه الحاج في سبيل هذه الفريضة ومناسكها، وتعوّد على النظام والجدّية والمسؤولية في الحياة بالتزامه بنظام دقيق شامل لجميع شؤون الفرد لباساً وطعاماً وجسداً وزماناً ومكاناً ومجتمعاً و...

إنّها "حركة شمولية ذات أبعاد تربوية حقيقية استعملت فيها أساليب الحسبة والتجريدية والممارسات التجريبية بكلِّ ما تعني من عمق في قدرة الحج على التغيير بطريقة تخلو من كلِّ السلبيات في العملية التربوية على العموم.. فالحج فريضة متعدّدة الجوانب والأُطر: اجتماعية، تربوية، سياسية، علمية، عقلية، وجدانية، بدنية، فنية.."[2].

 

الحج ترسيخ لقيم التواضع والمساواة:

إنّ الحجّ تدريب عملي للمسلم على المبادئ الإنسانية العليا التي جاء بها الإسلام، فقد أراد دين الله أن لا تكون تعاليمه ومبادئه مجرّد شعارات أو نداءات، بل ربطها بعبادته وشعائره ربطاً وثيقاً، حتى تكون سلوكاً تطبيقياً في حياة المسلم وفي علاقته مع الآخرين.

"فمن خلال الإحرام – مثلاً – الذي هو ركن من أركان الحجّ – وحيث تشمل الجميع صحوة للنفس البشرية التي قد يستولي عليها الكبرياء والخيلاء في بعض الأحيان، وتجمع بها الشهوات، أن تفكر وهي محرمة في أصلها وتدرك أنّه لا يُفضّل أحدٌ أحداً إلّا بالتقوى والعمل الصالح"[3].

إنّ المسلم هناك وعندما يتجرّد عن الثوب الأنيق بل الثوب المخيط ويحرم عليه أن يمسّ الطيب.. ويرى نفسه في لباسٍ يساوي أقلّ الناس مالاً وجاهاً، هناك يتلقّى درساً في المساواة لا تبلغه أقوى العبارات وأعظم الدروس.

 

الحجّ ترسيخ للوحدة الإنسانية:

إنّ الحجّ ليس مجرّد فريضة تهذّب النفس وتعصم السلوك بل هو أيضاً عنوان للأخوّة الإنسانية العامة.. إنّ الإسلام بتعاليمه لا يدع الفرد ينطوي على أنانية مُفرِّقة.. بل تطبعه بشرائعه وآدابه على الإيثار والحبّ..

"فأرض الحج هي البلد الحرام، والبيت الحرام (مَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) (آل عمران/ 97).. أمانٌ وسلام فريد في نوعه، يشمل الطير والصيد والنبات فضلاً عن الإنسان، وانّ المسلم حين يُحرم بالحجّ يظلّ فترة إحرامه في سلامٍ حقيقي مع من حوله، فلا يجوز له أن يقطع نباتاً أو يقلع شجرة، كما لا يجوز أن يذبح حيواناً صاده غيره له أو يرمي هو صيداً في الحرم أو خارجه"[4].

وهكذا نرى من خلال مناسك الحج وشعائره خدمة لما يخص المجتمع البشري على اختلاف ألوانه ولغاته وبلاده دون تفرقة ولا تمييز.. ولقد أعطت المسألة الإسلامية الفتية قوّة دفع كبيرة لإحدى مرتكزات المجتمع الإسلامي الأساسية، عبر تحريرها الفرد المسلم والجماعة المسلمة من جملة قيود تاريخية وراهنة أحالت دورة الحج إلى واقعه محكومة بنظم فكرية وسياسية مسيطرة على المجتمع الإسلامي، هجرت الشريعة الإسلامية منذ زمن بعيد، وحطّت رحالها في أرض التبعية الشاملة لنظم التسلط العالمية!

لقد أوصلت التجربة الإسلامية الفتية المجتمع الإسلامي المعاصر بأصول الشريعة في أكثر من نقطة كانت عصور الظلم السابقة ونظم القهر الحديثة قد قطعتها وأحلت مكانها منطقها وأفكارها وسياساتها التي مزّقت الشخصية الإسلامية على أكثر من صعيد، وصادرت هوية الأُمّة في أكثر من موقع[5].

إنّ انفتاح الحالة الإسلامية الفتية على فضاء البشرية التوحيدية، فتح لها آفاق حركة شاملة في مواجهة ظلم الآخرين.. وغفلة الذات، وذلك عبر ما أحيته من قيم ومعايير غطّت جوانب أساسية من شبكة العلاقات الناظمة والموجّهة لسلوك المسلمين. لكن ذلك وضعها مباشرةً في مواجهة التيارات الفكرية والسياسية المناهضة لتطلّعات المجتمع الإسلامي ولقضاياه العادلة.

"وإذا كانت الحالة الإسلامية قد تمكّنت من فرض نفسها كتيّار جديد ومجدّد ومكتمل البنيان في مواجهة تيارات العجز والقصور التي تقودها نظم التبعية والانحطاط، فإنّ واقع المواجهة وما ينطوي عليه من مشاكل شتّى سيشكّل عنواناً لمرحلة طويلة قادمة"[6].

 

الحجّ عبادة وسياسة:

لقد دفعت النظم الهاجرة للشريعة، في مواجهة التصوّر الإسلامي للحج، مقولة أنّ الحج ممارسة عبادية لا ارتباط لها بالسياسة.. وقبل علماء الأُمّة هذا التحدّي، عبر تقديمهم لتصوّر إيجابي متكامل يؤكّد استناداً إلى القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة، كون الحج جزءاً لا يتجزّأ من دورة المجتمع الإسلامي العامة وبالتالي ميزان الأُمّة وقضاياها.. فإنّه من الطبيعي، أن يحمل كلّ ركن من أركان الأُمّة هموم الأُمّة في أحشائه بهذا القدر أو ذاك وبشكلٍ أو بآخر.. أي أنّ الحج كركن أساسي لابدّ له من أن ينفتح على سماء الأُمّة وقضاياها السياسية المختلفة..

فتحوّل الحجّ ليحتلّ مكانة خاصة. إنّه تحوّل، لا في الشكل المعين لمناسك هذه الفريضة الإلهية الكبرى، بل في إحياء هذه المناسك وفي إثراء هذا الركن الإسلامي الركين بالمعنى والاتجاه.. في هذا التحوّل، عاد الحج ليكون مرّة أخرى مؤتمراً عظيماً عبادياً – سياسياً وتجمعاً لإعلان البراءة من المشركين..

 

الحج ووحدة المسلمين:

وبما أنّ الوحدة هي الكفيلة لحفظ كيان الأُمّة وتماسكها، وترسيخ وجودها، وتثبيت أقدامها.. وبأنّ التوحّد والترابط، والتآلف والتماسك، هي مصدر القوّة والغلبة، ومنبع القدرة والمنعة.. وأنّ القوّة أمر ضروري لحفظ الشرائع والمبادئ.. والوحدة مصدر قوّة.. فإنّ الحجّ أفضل مكان لتعارف الشعوب الإسلامية، حيث يتعرّف المسلمون على إخوانهم وأخواتهم في الدين من شتّى أنحاء العالم، ويتلقون مع بعضهم في البيت الذي به كلّ المجتمعات الإسلامية وأتباع إبراهيم الحنيف.. وبنبذهم ما يمايزهم من اللون والقومية.. والأصل.. يعودون إلى أرضهم وبيتهم الأوّل.. ►

 

المصدر: مجلة ميقات الحجّ/ العدد12 لسنة 2000م


[1]- أسرار العبادات في الإسلام، عبدالعزيز الأهل: 166، دار العلم للملايين.

[2]- دلالة الحركة في مسيرة الحج/ الأستاذ عبدالرحمن حللي، مجلة نهج الإسلام، العدد 67: 62، 1996م.

[3]- ثمرات من الحج، مروان شيخو، مجلة نهج الإسلام، العدد 248: 58، 1992م

[4]- المصدر نفسه: 59.

[5] - انظر المجتمع الإسلامي في مواجهة تحديات الحج، د. حسين ضيفة: 45.

[6]- المصدر نفسه: 46.

ارسال التعليق

Top