• ٢٨ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٨ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الحياء.. عاطفة حيّة داخل النفس

د. عمرو خالد

الحياء.. عاطفة حيّة داخل النفس
◄إننا اليوم في أشد الاحتياج إلى هذا الخُلق... إنه خُلق من أهم الأخلاق... خُلق مؤثر في الفرد والأسرة والمجتمع، خُلق أصبح غريباً في هذه الأيام... وحينما ضاع منّا فسد المجتمع... خُلق كلما تمسكنا به... زاد المجتمع طهراً ونقاءً. وكلما بعدنا عنه... زادت المشاكل في المجتمع. إنه خُلق الحياء... الملاصق للإيمان، فيزيد الإيمان بزيادته، وينقص بنقصانه.   ما معنى الحياء...؟ نسمع أحياناً أنّ فلاناً حييّ أو يقال: إنّ فلاناً عنده حياء، فماذا نعني بالحياء؟... إنّ الحياء معناه: انقباض النفس؛ أيّ أنّ النفس لا تستطيع فعل الرذيلة أو الشيء القبيح، ولا تطيقه، فالإنسان الحييّ لا يستطيع أن يرى نفسه مهانة أمام الله، أو أمام الناس، أو أمام نفسه. إنّ الإنسان الحيي نفسه كريمة، إنّ الإنسان الحيي يحترم نفسه أمام الله، وأمام الناس، وأمام نفسه.   وكأنه عاطفة حية...!! من هذا التعريف السابق تجد أنّ الحياء وكأنه عاطفة حية داخل نفس... عاطفة ترتفع بها النفس عن الدنايا وعن الصغائر. عاطفة تجعل بعض الكلمات من قبيل المستحيلات مثل: المعصية، الخطيئة، الغش، الخديعة، السرقة، الزنى...، وتجد لسان حال العاطفة: أنا أعلى من ذلك... أنا أرقى من ذلك.   الحياء من الحياة: إنّ أصل كلمة حياء من الحياة، ولذلك نقول: استحى الرجل، أيّ إنه من قوة نبض الحياة داخله استحى أن يقع في الرذيلة من كثرة ما هو حيي. فلأن قلبه حيّ لا يستطيع أن يفعل الدنايا والرذائل.   وماذا تنتظر إذا مات القلب...!؟ إنّ العلاقة بين حياة القلب (خاصة)، والحياء (عامة) لعلاقة وثيقة، فكلما كان القلب حياً كلما ازددت حياء... وإذا مات القلب...!! انتهى الأمر، ولن يكون عند المرء حياء، فبموت قلبه ماتت العاطفة! فلن يستقبح قبيحاً ولن يستدني دنية. وهنا تراه قد تجرأ على معصية الله، ولم تعد حياته حياة... وصدق من قال: "أكمل الناس حياة أكملهم حياء".   هل هناك فرق بين الخجل والحياء...؟ كثير منا يظنون أنّ الحياء معناه "الكسوف" والخجل...!! ولكن هناك فرق كبير بين الخجل والحياء. فالخجل يُعرّفه علماء النفس بأنه: ارتباك يحدث للإنسان نتيجة موقف، كسؤال المعلم للطالب... فتجد الطالب يخجل ولا يستطيع عرض رأيه بوضوح، فالخجل ناتج عن جبن، عن خوف... فالشخصية الخجولة شخصية ضعيفة... شخصية لا تعرف قيمتها، ولكن الحياء عكس ذلك تماماً... فإنّ الحياء ناتج عن شخصية قوية، شخصية تستشعر قيمتها فهي كريمة... تستعلي أن تفعل القبائح. سبحانه الله!! كما نظن أنّ الحياء والخجل كلمتان مترادفتان، وقد تبيَّن لنا أنهما متضادتان.   فهم خاطئ...!! إننا الآن بعد ما عرفنا الفرق الكبير بين الخجل والحياء،نستطيع أن نفسِّر كثيراً من التصرفات الخاطئة مثل: ترى حقه مهضوماً ولا يطالب به، وحينما تسأله لماذا تسكت عن حقك يقول: أنا خجول. حقاً... إنه خجل وليس حياء. فإنه إن كان حيياً لطالب بحقه.   أي دلالة هذه...!! وإليك أحاديث النبي (ص) التي يتحدث فيها عن خلق الحياء، وستجد نفسك تخرج بهذه النتيجة: إنّ الحياء أهم وأعظم الأخلاق. يقول النبي (ص): "الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَة، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمان". أي إنّ الإيمان يتكون من بضع وستين شعبة من تجمعَتْ فيه صار مؤمناً. ونلاحظ هنا أنّ النبي (ص) لم يذكر هذه الشعب ولكنه ذكر الحياء فقط. سبحان الله... إنها لدلالة صريحة على أنّ الحياء سيأخذ بيدك للبضع والستين شعبة... فإن كنت حيياً انضبطت معك بقية الشعب، وفي رواية أخرى يقول النبي: "الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةٌ أَعْلاَهَا قَوْلُ لاَ إله إلاَّ الله، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّريقِ، وَالحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ". سبحان الله، إنّ الحياء جزء أساسي من مكونات الإيمان. هيا... لنراجع أنفسنا... فأين نحن من خلق الحياء؟   الأخلاق مردّها إلى الحياء: يقول النبي (ص): "الحَيَاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ". ويقول أيضاً: "الحَيَاءُ لاَ يَأْتِي إِلاَّ بِخَيْرٍ". ويقول (ص): "الحَيَاءُ مِنَ الإِيمَانِ، وَالإِيمَانُ فِي الجَنَّةِ، وَالبَذَاءُ مِنَ الجَفَاءِ، وَالجَفَاءُ فِي النَّارِ". البذاء أيّ: سوء الأدب، والجفاء أيّ: غلظة القلب. ويقول (ص): "الحَيَاءُ وَالإِيمَانُ قُرَنَاء جَميعاً إِذَا رُفِع أَحَدُهُمَا رُفِعَ الآَخَرُ". سبحانه الله... إنّ الأحاديث تدور حول: لِمَنْ الخيرية...؟ لِمَنْ الإيمان...؟ لِمَنْ الأخلاق...؟ إنها جميعاً لِمَنْ كان عنده حياء. إنك لن تستطيع أن تبرّ والديك، أو تتوب إلى الله، أو تحج، أو تعتمر، أو تصدق وتترك الكذب، أو تحرص على طاعة الله أو... إلا إذا كنت حيياً... تستحي من الله لذنوبك الكثيرة، وأنت تستحي أن تلقاه هكذا... فتبر والديك وتقبل على الله وتصدق وتستقيم... حقاً إنّ الأخلاق مردّها إلى الحياء.   إذا نزع الحياء فانتظر الهلاك: يقول النبي (ص): "إِنَّ الله إِذَا أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ عَبْدَاً نَزَعَ مِنْهُ الحَيَاءَ، فَإِذَا نَزَعَ مِنْهُ الحَيَاءَ لَمْ تَلْقَه إِلاَّ مُقِيتاً مَمْقِتاً، فَإِذَا لَمْ تَلْقَه إِلاَّ مُقِيتاً مُمْقِتاً نُزِعَتْ مِنْهُ الأَمَانَةُ، فَإِذَا نُزِعَتْ مِنْهُ الأَمَانَةُ لَمْ تَلْقَه إِلاّ خَائِناً مُخَوَّناً، فإِذَا لَمْ تَلْقَه إِلاَّ خَائِناً مُخَوَّناً نُزِعْت مِنْهُ الرَّحْمَةُ، فَإِذَا نُزِعَتْ مِنْهُ الرَّحْمَةُ لَمْ تَلْقَه إِلاَّ رَجِيماً مَلْعُوناً، فَإِذَا لَمْ تَلْقَه إِلاَّ رَجِيماً مُلْعَناً نُزِعَتْ مِنْهُ رَبْقَةُ الإِسْلاَمِ". يا الله!! أول الهلاك يبدأ بنزع الحياء. وسبحان الله تجد في الطرقات الكثير من منزوعي الحياء. فتستحي أنت من أفعالهم ولا يستحون. اقرأ الحديث مرة أخرى واستشعر معناه واسأل نفسك. هل أنا حييّ...؟   معنى جميل: يقول النبي (ص): "إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقاً وَخُلُقُ الإِسْلامِ الحَيَاءُ". وهذا لا يعني أنّ الإسلام ليس فيه من الأخلاق إلا الحياء!! ولكن معناه أن أكمل أخلاق الإسلام هو الحياء!! والله إنه لمعنى جميل "خلق الإسلام الحياء". فلن تجد في الإسلام أكمل ولا أعظم من خلق الحياء.   حديث ومعنيان...!! يقول النبي (ص): "إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ الأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ". أي إن خُلق الحياء أجمع عليه كل الأنبياء ولم ينسخ. ولهذا الحديث معنيان: الأول: تهديد إن لم يكن عندك حياء فاصنع ما شئت، فإنك ستجازى. الثاني: الإقدام على الفعل وعدم التحرج... فإن كان الفعل الذي ستفعله لا تستحي منه – وأنت ذو قلبٍ حيّ – فلا غبار فيه ولا عيب، فأقِدم عليه ولا تبالي.   رسولنا أشد حياء من العذراء في خدرها: كان رسول الله (ص) أشد حياء من العذراء في خدرها، فكيف حياؤك أنت!! فماذا تفعل إذا رأيت منظراً سيئاً؟ هل يحمر وجهك وتغضّ بصرك أم أنك...؟؟ صِف لنا يوماً من حياتك واذكر حياءك فيه... إنّ حبيبك (ص) كان أشد حياء من العذراء في (مخدعها). كثير منا قد تريي على الحياء منذ صغره أليس كذلك؟   موعظة في الحياء: مر رسول الله (ص) على رجل من الأنصار يعِظ أخاه في الحياء. لا تفهم ظاهر المعنى وانتظر... يعظ أخاه في الحياء أيّ يوصيه بأن يخفف من حيائه قليلاً؛ لأنه كان حيياً للغاية. فقال له النبي (ص): "دَعْه فَإِنَّ الحَيَاء مِن الإِيمَان". تخيَّل لو أنّ هذا الصحابي الذي كان يعِظ أخاه موجود بيننا الآن، فكيف تكون موعظته في الحياء!!؟   هكذا يكون حياء البنات...!! جاءت فاطمة بنت عتبة بن ربيعة إلى رسول الله (ص) تريد الإسلام، وكان ذلك في وجود السيدة عائشة، فقال رسول الله (ص): "بَايِعِينِي يَا فَاطِمَة عَلَى أَلاَّ تُشْرِكِي بالله شَيْئاً وَلاَ تَسْرِقِي وَلاَ تَزْنِي..." فلما سمعت فاطمة هذه الكلمة: "ولا تزني" وضعت يدها على رأسها وأنزلت وجهها من شدة الحياء، فأُعْجِب بحيائها (ص)، فقالت لها السيدة عائشة: يا فاطمة، بايعي فإنّ النساء بايعن على هذا، فبايعت فاطمة. أين أنتِ يا فاطمة؟ فإننا نبحث عن أمثالك في هذه الأيام...!! فجاءته إحداهما تمشي على استحياء: يقول الله عز وجل واصفاً حال المرأة التي قابلت سيدنا موسى: (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا...) (القصص/ 25). واقرأ مرة أخرى بهذه الطريقة: (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ...) ... (عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا...) (القصص/ 25). هل فهمت ماذا أقصد؟... وكانك ستشعر أنّ كلامها على استحياء ومشيتها على استحياء... حالها كله استحياء. إنّ الحياء حينما يذكر، فالنظرة للمرأة تكون أشد وتطالب به أشد مما يطالب به الرجل. افهم كلامي جيداً ولا تفسّره وِفق هواك!!   أعظم درجات الحياء: إنّ أعلى درجات الحياء وأرقاها وأعظمها هو الحياء من الله... إننا جميعاً رجلاً أو امرأة... شاباً أو فتاة... كبيراً أو صغيراً... نشترك عند ارتكابنا للمعصية في شيء أساسي: ألا وهو عدم الحياء من الله. فلو كنت تعلم وتوقن أنّ الله ينظر إليك، لما ارتكبت المعصية؛ بل كنت تستحي منه، أخشى ألا تكون مستشعراً هذا الكلام.   أعد ترتيب أوراقك من جديد...!! "رُّبَّ عمل صغير تعظمه نية، ورُبِّ عمل كبير تحقره نية" انظر ماذا فعلت النية بالأعمال...!! والآن انْسَ هذا الأمر، فلقد كان تمهيداً وإليك ما أقصد: أحياناً يرتكب الإنسان الذنب الكبير، يقترن له من الندم والتوبة والحياء من الله والخوف منه ما يجعله من الصغائر...!! وأحياناً أخرى يرتكب الإنسان الذنب الصغير يقترن به عدم حياء من الله، وعدم خوف منه واجتراء عليه ما يجعله من الكبائر...!! أشعر بك الآن تستحي من الله... ولك الحق فإنه والله شيء خطير!! يا الله..!! يقاس الذنب الصغير والكبير بحيائك من الله، والندم على ما فعلت. أراك بعدما علمت خطورة الحياء تعيد ترتيب أوراقك من جديد!!   ابن القيم يوضح...!! ولطبيب القلوب (ابن القيم) كلام رائع في الحياء من الله... ولكن قبل القراءة... اعلم أنّ من أسباب الشفاء صدق المريض في عرض حالته، وعدم إخفاء أي شيء على الطبيب!! يقول ابن القيم: "وفرحك بالذنب أشد عند الله من الذنب، وضحكك وأنت تفعل الذنب أشد عند الله من الذنب، وحزنك على فوات الذنب إذا فاتك أشد عند الله من الذنب، وحرصك على أن تستر نفسك وأنت تذنب ولا يضطرب قلبك لنظر الله إليك أشد عند الله من الذنب". يا لها من كلمات تدمع لها العيون...!! حقاً إنّ فرحك بالذنب لعدم حيائك من الله كان أشد عند الله من الذنب نفسه، وكذلك حزنك لفوات الذنب لعدم حيائك من الله فكان هذا الحزن أشد من الذنب... وحين تحرص على أن تستر نفسك وأنت تذنب...!! أما تستحي من الله...!! هيا اعرض نفسك...!! وطهور إن شاء الله.     انظر إلى رحمة الله بك واستحي منه: أما تستحي بعد كل هذا... فإن أبيت إلا أن تعصي الله فإليك هذا المعنى: انظر إلى رحمة الله بك لتتعلم الحياء، وانظر إلى لطفه بك وحرصه عليك، يقول الله عز وجل في الحديث القدسي: "إني والإنس والجن في نبأ عظيم، أَخْلُق ويعبد غيري، أرزق ويشكر سواي، خيري إلى العباد نازل وشرهم إليَّ صاعد، أتودد إليهم بالنِّعم وأنا الغني عنهم! ويتبغضون إليَّ بالمعاصي وهم أفقر ما يكونون إلي، أهل ذكري أهل مجالستي، من أراد أن يجالسني فليذكرني، أهل طاعتي أهل محبتي، أهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي، إن تابوا إلي فأنا حبيبهم، وإن أبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأطهرِّهم من المعايب، من أتاني منهم تائباً تلقيته من بعيد، ومن أعرض عني ناديته من قريب، أقول له: أين تذهب؟ ألك ربٌّ سواي، الحسنة عندي بعشرة أمثالها وأزيد، والسيئة عندي بمثلها وأعفو، وعزَّتي وجلالي لو استغفروني منها لغفرتها لهم". إن كان قلبك طاهراً... نقياً.. حيّياً فستبكي بعد كلام الله.. أما زلت بعد هذه الرحمات... تأكل الحرام، وتنظر إلى الحرام، تكذب، تغش، تخون الأمانة، لا تصلي، لا تتقي الله، لا تلبسي الحجاب،... أما تستحي من الله بعد كل هذه الرحمات؟ فإن أبيت فإليك هذه: جاء في الأثر: "أنّ الله تبارك وتعالى نادى داود: يا داود لو يعلم المدبرون عني شوقي لهم وحبي لهم ورغبتي في عودتهم لطاروا شوقاً إلي، يا داود: هذه رغبتي بالمدبرين عني فكيف حبي للمقبلين عليَّ". كل هذا وتعصي الله ولا تستحي منه!! يقول (ص): "إنّ الله يَبْسُط يَدَهُ بالليْلِ لِيَتُوْبَ مُسِيءُ النّهَارِ، وَيَبْسط يَدَهُ بالنّهَارِ لِيَتُوْبَ مُسِيْءُ الليْلِ حَتى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِها". ألا تستشعر أنّ رحمة الله قد غمرتنا؟ فلقد عشنا هذه اللحظات في جوٍّ من الرحمة مع الرحمن الرحيم الذي إن عاملَنا بعدله لما أبقى منا أحداً على وجه الأرض. والآن.. وبعد هذا الشعور الطيب عاهد نفسك على ألا تعصي الله أبداً. فأنت تستحي منه أليس كذلك!؟   وانظر إلى نِعَم الله عليك واستحي منه: إنّ الناس متفاوتو الهمم... فيبدو رغم رحمات الله التي غشيتنا أنّ هناك مَنْ لم يستح من الله بعد... فإن أبيت أن تستحي أمام كل هذه الرحمة، أفلا تستحي من نعمه عليك؟... فمن الذي خلق لك العين؟ تقول: إنه الله، تقول ذلك وتنظر بها إلى الحرام أما تستحي؟ ومن الذي خلق لك القلب؟ تقول: إنه الله... ومع ذلك تُغضب الله بالحب الحرام أما تستحي؟ ومن الذي خلق لك العقل؟ تقول: إنه الله... ومع ذلك تقرر ألا تطيعه... أما تستحي؟ انظر إلى نِعَم الله عليك... يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ) (الإنفطار/ 6-8). (فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا) (عبس/ 24-31). حقاً إنها نعم بلا شكر، وأول شكرها أن تستحي من مُنعمها.   تدريب عملي: ليكون هذا الكلام عملياً وليس نظرياً عليك بالآتي: أحضر ورقة وقلماً واقسم الورقة بالقلم نصفين... واكتب في النصف الأول نِعِمَ الله عليك (.. وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا...) (إبراهيم/ 34)، إنك إن أردت أن تكتب النعم فلن تكفِ كراسات، ولكن اكتب على قدر هذا النصف نعمة السمع، البصر، الإحساس، والقوة، العاطفة، التفكير، المال، الصحة، الإسلام،... واكتب في النصف الثاني ذنوبك، ولا تخف فإنّ هذا التدريب سري للغاية! فأنت وحدك في الغرفة... وبعد أن كتبت ذنوبك... الآن انظر إلى الصفحة... والله أقل القليل أن تبكي لكل هذه الذنوب أمام كل هذه النعم. أما آن لك أن تستحي من الله؟   والآن... أنت بين يدي الله: يقول الله عز وجل: (قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) (طه/ 46). ويقول أيضاً: (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى) (العلق/ 14). إلى مَن لم يستحِ بعد، ولم يستشعر أنّ الله يسمعه ويراه... إلى من نسي أو تناسى أنه سيقف بين يدي الله. تخيَّل الآن... أنك تقف بين يدي الله حافياً، عارياً، تمسك صحيفتك. عيشوا هذا الموقف الآن بكل شعوركم فوالله ما أقرب هذا اليوم، إنه موقف رهيب... يقول علي بن أبي طالب (ع): "والله إني أعلم أقواماً سيسقط لحم وجوههم خجلاً حينما تُعْرَضُ سيئاتهم". والآن ينادى عليك: فلان بن فلان بن فلان... هيا لتعرض على الجبار، فلا تستطيع يوم القيامة أن تتحرك من مكانك من حيائك من الله ومن خوفك منه وارتعادك، فتعرفك الملائكة من وسط المليارات من شدة خوفك وارتعادك من الله، ومن شدة حيائك، فتؤخذ وتوقف بين يدي الله. وما سيحدث الآن ورد عن النبي... لا تنسى أنت الآن بين يدي الله، يقول لك: "عبدي ما غرَّك بي.. عبدي أظننت أنك ستقابلني أم نسيت ذلك اليوم.. عبدي أما استحييت مني.. عبدي ألم أكن رقيباً على عينيك وأنت تنظر بهما إلى الحرام.. عبدي ألم أكن رقيباً على قدميك تمشي بهما إلى (سهرة كذا) عبدي ألم أكن رقيباً على يديك وأنت تأخذ بهما الحرام، وتلمس بهما الحرام (...) عبدي استهونت بلقائي.. عبدي أكنت تتجمل للناس وتأتيني بالقبيح.. عبدي ألم أزوِّجك.. ألم أنعِم عليك.. ألم أرزقك".. كيف حالك يا مسكين وأنت تقف هذا الموقف الرهيب..؟! ثمّ يقول الملِكَ: "عبدي اقرأ كتابك".. فتبدأ بالقراءة.. تمر بالسيئة، فيسودُّ لها وجهك وتمر بالحسنة فيبيضُّ لها وجهك. لكن يبدو أنّ هناك أناساً عاشت في الدنيا، ولم يكن عندها أيُّ درجة من درجات الحياء، فيكون يوم القيامة عديم الحياء. فيقول: يا رب أنا لا أقبل شهادة الشاهدين، لا أقبل شهادة الملائكة، ولا شهادة هذا الكتاب الذي كُتِبَ فيقول الله: فماذا تريد؟ فيقول: لا أقبل شاهداً إلا من نفسي. فيقول الله: نعم. فيختم على فمه: (وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (يس/ 65). (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ) (فصلت/ 22). انكم لم تستحوا من الله. فيقول الله تبارك وتعالى لهذا الرجل، وقد غضب عليه غضباً شديداً: "اذهب يا عبد السوء عليك لعنتي فلا أقبل منك أبداً". لا حول ولا قوة إلا بالله... استحِ من الله قبل أن تكون هذا الرجل.. فيا ويلك لو كنت مكانه. ولكن انظر إلى هذا الذي استحى من الله في الدنيا كيف حاله...؟ يقول النبي (ص): "يُدنِي الله تبارك وتعالى العَبْدَ المؤمِنَ منهُ يقولُ له: ادْن عبدي أتذكر ذَنْبَ كذا؟ أتذكر ذنب كذا؟ أتذكر ذنب كذا؟" حتى يظن العَبْدُ أنَّه هالك فيقول الله – عزّ وجلّ –: "سَتَرْتُها عليكَ في الدُّنيا وها أنا أغفِرْها لك اليوم". هل بعد هذا الموقف العصيب شيء يقال؟! وهل بعد كل هذا لن تستحي من الله وسوف تعود للمعاصي؟! وهل ما زلت مصراً على ترك طاعة الله؟ وهل أنتِ ما زلت مصرة على ألا تلبسي الحجاب!؟ بالله عليكم استحوا من الله... كفاكم.   أنواع الحياء: يقول العلماء: إنّ الحياء من الله له 6 أشكال (6 أنواع): وإنّني أدعوك وأهمس في أذنك... قبل معرفة أنواع الحياء أن تراجع ما قرأته مراجعة سريعة حتى تتم الفائدة، ويتحقق المراد... هيا ماذا تنتظر!!؟ النوع الأوّل: حياء الجناية: ومعنى حياء الجناية: حياء من ارتكب مصيبة. كحياء سيدنا آدم (ع) حينما أكل من الشجرة، فظلَّ يجري هو وزوجته في الجنة، فقال الله تبارك وتعالى: إلى أين يا آدم أفِراراً مني؟ قال: لا يا ربي بل حياءً منك. هل حدث لك في يوم من الأيّام أنك لم تستطع النوم حياءً من الله لارتكابك معصية في حقه؟ أو أنك خرجت من بيتك مسرعاً لتتصدّق بـ 5 جنيه أو 10 جنيه أو... حياء من الله أن عصيته؟! النوع الثاني: حياء التقصير: ومعنى حياء التقصير: حياء من لم يعبد الله حق عبادته... ومَن يستطيع أن يعبد الله حق عبادته!!؟ لن تجد. ولذلك فكلنا مقصرون. وهو كحياء الملائكة، يقول النبي (ص): "أطت السَّماء – أي: ازدحمت وثَقُلَتْ – وحقَّ لها أن تَئِطَّ، ما فيها مَوْضِعُ ثلاثةِ أصابعَ إلا ومَلَكٌ ساجِدٌ، أو مَلَكٌ راكِعٌ، أو ملكٌ قائمٌ لله – عزّ وجلّ – حتّى إذا قامَتِ القيامَة يقُولُونَ سبحانَكَ ما عبدْنَاكَ حق عبادتِكَ". هل شعرت بهذا التقصير من قبل؟ نعم. فهل استحييت من الله!؟ وسبحان الله لن يتذوق هذا الكلام إلا من مر به. فكلما زادت طاعتك لله زاد حياؤك، وكلما زاد إيمانك زاد حياؤك منه. حقاً انّ حياء التقصير ليس له نهاية. النوع الثالث: حياء استشعار نعم الله عليك: ويأتي هذا النوع من استشعارك من أنّ نِعَم الله تغمرك غمراً، فلا تعرف كيف تشكره فتستحي منه. كحياء النبي (ص) وهو يدعو ويقول: "لااُحْصِي ثناءً عليك أنتَ كما أثنَيْتَ على نَفْسِكَ". أما شعرت بهذا من قبل؟ فمن كثرة النِّعم التي أنعم الله عليك تستحي منه، فإن شُكْركَ بالنسبة للنعم قليل. النوع الرابع: حياء العبودية: وهو حياء العبد الذي يسمع ويطيع لمولاه ولا يرفض له أمراً كحياء النبي (ص) حينما كانت القبلة إلى بيت المقدس، ولكن النبي يريد أن تكون القبلة إلى الكعبة، فهل قال النبيّ (ص): حوِّل القبلة يا رب؟ لا والله... إنّه حياء العبد. يقول تعالى: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ) (البقرة/ 144). فكان النبيّ (ص) ينظر إلى السماء بعينيه ولا يتكلم حياء من الله حقاً كان النبي أشد حياء من العذراء في خدرها. ومن أعْبَد من رسول الله في الأرض يستحسن حياء العبودية؟ النوع الخامس: حياء المحبة: إنّ هذا النوع لا يحتاج أن تقرأه؛ بل يحتاج أن تعيشه وتتذوقه. فافتح لي قلبك. فلحبك الشديد لله تستحي منه، فلربما بكت عيناك ولربما اضطرب قلبك، ولربما خشعت جوارحك. فمن حياء النبي (ص) ولحبه الشديد لله يقول: "اللَّهمَّ ارْزُقنِي حُبَّكَ وحُبَّ مَن أحبَّكَ، وحُبَّ عملٍ يقرِّبُني إلى حُبِّكَ". اقرأ هذا النوع مرةً أخرى... إن لم تتذوق حلاوة الشعور، فاعلم أنك لن تشعر به إلا إذا أحسسته. وحاول وجرِّب وأكْثِر من الطاعات وستجد حبَّ الله في قلبك وحينها تستحي منه... إنّه شعور لا يمكن وصفه. النوع السادس: حياء إجلال الله – عزّ وجلّ –: وهو حياء ناتج عن إجلال الله الملك العظيم مالك الملك. كحياء سيدنا جبريل (ع) في رحلة الإسراء والمعراج وهم في السماء السابعة، وسيدخل النبيّ (ص) إلى سدرة المنتهى ومعه جبريل، وفجأة توقف جبريل يقول النبيّ (ص): "فالتَفَتُّ إلى جبريلَ، فإذا هو كالحِلْسِ البَالِي (قطعة القماش الممزقة)" مِن خَشْيَةِ الله، وحياء منهُ، فهو مُسْتَشْعِر إجلال الله. سبحان الله: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) (الأنعام/ 91). حياء يجعلك تفكر ألف مرة عند المعصية. فأنت ستعصي الجليل... وختاماً [ألا إنّ أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون] بمراجعة سريع على الأنواع الست: 1- حياء الجناية 2- حياء التقصير 3- حياء العبودية 4- حياء المحبة. 5- حياء استشعار نِعَم الله عليك 6- حياء إجلال الله – عزّ وجلّ –. اسمعك تقول: ليس هذا هو الترتيب الصحيح... يا أخي الحبيب افهم. ولا تحفظ... الترتيب هنا ليس له أهمية، وحاول أن تشغل نفسك بالتطبيق لا بالترتيب. فهل أحسست حينما عصيت الله بالحياء منه!؟ وهل أحسست حينما قصّرت في عبادة الله بالحياء منه!؟ وهل أحسست بأنك العبد الفقير الضعيف فاستحييت من الله!؟ وهل أحسست بحبك لله فاستحييت منه!؟ وهل أحسست بجلال الله وجبروته فاستحييت منه!؟ وهل أحسست بأنّ نِعَم الله تغمرك فاستحييت منه!؟ والآن... يا بشراك.

يقول العلماء: "من استحى من الله بَلَغ مقام الأولياء".►

المصدر: كتاب أخلاق المؤمن

ارسال التعليق

Top