• ٢٣ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الصباح الأخير

يسرى توفيق

الصباح الأخير

◄تسلّلت أشعة الشمس خِلسة من بين الستائر المسدَلة. على الرغم من كل الحواجز، كانت مُصمّمة على الدخول وإلقاء نظرة. بصعوبة، غافلت الستائر ولثمت وجنته كأنّما تُقبّله. شعر بدفء قُبلتها وهو في عالم الأحلام، فتحرك والسرير يحضنه كأنّه يُعانقه.
على غير العادة، تَبادر إلى سمعه صوت أمه الملائكي، وهي جالسة على طرف سريره، ثمّ شعر بحنان لمستها على جبهته، ففتح عينيه لتكون إبتسامتها العَذْبة أول ما وقع عليه نظره في ذلك الصباح. أكان قلبها يعلَم، لكنه يعجز عن الكلام ولا يُجيد إلا النبض؟ نهض فرِحاً وقد كحّل عينيه بابتسامتها الرقيقة التي سحرت صباحه أملاً وتفاؤلاً. ارتدى ثيابه، بالغ في ترتيب نفسه كأنّه يتأهب للقاء شخص مهم، كان ينتقل بخفّة من مكان إلى آخر، وعيناها تُراقبانه بفرح ينتابه قلق بين الحين والآخر. جمع كتبه، ألقَى نظرة أخيرة على دروسه، التي أدركه الفجر وهو يقرأها تأهّباً لامتحان سيجلس له اليوم.
جلس يتناول الفطور وأزهار البنفسج على حافّة النافذة، ترمقه بعيون مخملية تتساقط منها حبّات النَّدى كالدموع. بينما كان هو يستمتع بفطوره، مطلقاً دُعابات كعادته، ردّت عليها أمه بابتسامة مقتضبة والقلق يحتلها رويداً من دون أن تعرف له مُبرّراً، فقد كانت تشعر بضربات قلبها تتسارع وتضطرب، كأنما تَودُّ إخبارها بشيء لم تستطع فهمه. غافلهُ الوقت، فنهض مسرعاً، حمل كتبه وحقيبته، ردّ على إلحاح أمه، ليشرب كأس العصير بأنّه سيكمله حين عودته. خرَج، بينما أسرعت هي إلى الشرفة تتبعه خطوة بخطوة ولسانها يَلهَج بالدُّعاء، حتى تعذّر عليها رؤيته.. أكانت تخاف ألا يتجدد اللقاء؟
عند الجسر، اعتاد صديقه أن ينتظره. وهناك، كان واقفاً ينظر إلى ساعته تارةً ويُحدّق إلى المارين تارة أخرى، باحثاً عنه مُتعجّلاً الزمن، متذمّراً من تأخّره، مُتوتّراً من إمتحان ينتظرهُ.
فجأةً، إرتعشت الأرض، توقفت الحياة للحظات. كانت نقطة تَحوّل، أخذت بعدها سُحب كثيفة من الدخان الأسود تجتاح زرقة السماء، والهَلَع بدأ يتحكم في الأجواء مُنذراً بالكارثة. سيطرت عليه الدهشة، جرى مسرعاً إلى هناك لينتقل إلى عالم آخر من الخراب، عالم لا ألوان فيه إلا الرمادي والأحمر. لم يَرَ فيه إلا الدمار. ولم يَبْقَ من الحياة فيه سوى وليمة أشلاء للنيران، تلتهمها على وقْع ألحان الكارثة، من أصوات الصراخ والبكاء والألم. كانت الصدمة تُقيّده قبل أن يتحرر منها بعض الشيء ليتصل به ويداه ترتجفان خوفاً وقلقاً والرهبة تملأ قلبه، بينما تزدحم التساؤلات في رأسه، أيُعقَل ألا يُجيب للأبد؟

تَدرَّج إلى سمعه صوت هاتف يرن. تَتَبّعهُ برُعب، شاقّاً طريقه بين الأنقاض والأموات، حتى وقعت عيناه على حقيبته وكُتبه التي تحول بعضها إلى رماد تَذروه الرياح. بحث عنه متمنيّاً ألا يجده وبأمل تضاءل حتى تبدّد. أخيراً وجده وقد تحول إلى أشلاء تفصلها النقاض، إستدل عليها من يد مُضرَّجة تُحيطها ساعة مكسورة، كانت قبل أيام هدية من صديقه في يوم ميلاده، وباتت الآن دليلاً على رفاته في يوم وفاته. جَثَا لوَقْع الصدمة على ركبتيه، لا يشعر بشيء إلا بالدموع تسيل على وجهه وبقلبه يتمزق ألماً. لقد كانت تساؤلاته مُحقّة، صديقه صمت للأبد، أمس كان يشتكي من صعوبة الامتحان. أمس كان صدى دُعاباته وضحكاته يتردد في أرجاء الجامعة. أمس كان من الأحياء واليوم أصبح أشلاء.
نظر حوله بحثاً عمّن يُساعده على إنتشال ما تَبقَّى منه. وإذ بأمه تقف بلا حراك، وكأنّها فهمت أخيراً ما كان قلبها يحاول إخبارها به، لكن بعد فوات الأوان. حاول الصديق مُواساتها بصوت مُتهدّج يقطعه البكاء، فردّت عليه، بصمت مَن لا يزال مُتشبثاً بأمل أن يكون هذا مَحْض كابوس عابر، ستستيقظ منه بعد لحظات مُهرولة نحو طفلها تحضنه. انتظرت والدقائق تمرُّ كالسيف فوق خيط الأمل حتى انقطع، فهوَت إلى قاع بئر الحزن تملؤه بالدموع، انكبَّت فوق التراب الأحمر ليمتزج معها بدمه، وأخذت تُناديه مِراراً وترجوه أن يُجيب، رافضةً أن يكون قد صمت للأبد.
لكنه رَحَل، غادر هذا العالم، تاركاً أمّاً ثَكْلَى، ستظل تمزقها ذكراه أعواماً، ستظل كل يوم تَمرُّ إلى غرفته، تشتمُّ ثيابه، تترك دموعها على وسادته، تنفض الغبار عن كتبه وأقلامه، ثمّ تَخرُج محزونة متألمة. غادر تاركاً صديقاً لن ينسى يوماً أن يمرّ على قبره، ويترك فوق أشلائه ما كان يحب من زهر البنفسج، ويسقيه من أمطار عينيه، ثمّ يروي له أحداث الجامعة، كأنّه لن يتغيّب عنها للأبد. ذهب تاركاً ورقة امتحان بيضاء لم يكتب له أن يُسوّدها. تاركاً كأس عصير لن يعود ليكملها. تاركاً غرفته، كتبه، ثيابه. ثواني استغرقها القدَر ليخطفه من بين يدي الحياة إلى قبضة الموت، ونقلته بسرعة خاطفة إلى عالم الخلود، حتى قبل أن يقول الوداع، ثوانٍ ألغَت كل مخططات عمره وصعدت به إلى السماء، فهل كان يعلم أن ذلك الصباح الجميل هو الأخير؟ أنّ قُبلة الشمس هي قُبلة الوداع؟ أنّ عناق السرير هو عناق الوداع؟ أن ابتسامة الأُم هي الأخيرة؟ أنّ مُراقبتها له هي الأخيرة؟ أنّه على موعد مع الملائكة؟ وأنّه سيُمسِي في ذلك اليوم وما بعده حفنة من الذكريات، تتردّد كلما حرّكها الحنين؟ هل كان يَعْلَم؟؟►

*كاتبة من سوريا

ارسال التعليق

Top