• ١٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

تأهيل الأبناء للحياة

تأهيل الأبناء للحياة

كلّ الأمور عند حدها الأدنى تكون قليلة التكاليف، ويصل الناس إليها – أحياناً – من غير قصد ولا تخطيط، وهكذا إذا أردنا لأبنائنا أن يحيوا أي حياة كان، وأن يعملوا في المستقبل أي عمل، وأن يكون موقعهم الاجتماعي في أي مرتبة كانت، فإنّ المطلوب منا ليس كثيراً، يكفي لذلك توفير الطعام والشراب والملبس والسكن، وإلحاقهم بمدرسة الحي، ولهم بعد الابتدائية أن يتجهوا إلى حيث أحبوا مع قليل من التوجيه والعناية التربوية، وبالمناسبة؛ فإنّ الحيوان يستطيع بما أودع الله – تعالى – فيه من غريزة أن يقدم لصغاره هذا المستوى المتدني من الرعاية والحماية إلى أن يكبروا، ويتمكنوا من حماية أنفسهم وكسب رزقهم، أما إذا كنا نريد لأبنائنا أن يعيشوا وفق مرادات الله – تعالى – صلاحاً واستقامة، وأن يكون لهم نوع من الريادة والسبق بين الأقران، ونريد لهم أن يؤسسوا أُسراً ناجحة، وأن يشاركوا في إصلاح مجتمعاتهم، فإنّ المطلوب منا سيكونون كثيراً بكلّ ما تعنيه الكلمة من معنى، ولا ينبغي أن نضجر من هذا؛ لأنّ كثيراً من الآباء بذلوا جهوداً مضنية من أجلنا، وسوف يفعل ذلك أبناؤنا مع أبنائهم، هذه سُنة الله – تعالى – في التربية. أعتقد أنّ تأهيل الأبناء للحياة يتطلب التركيز على المعاني التالية:

أ) أن نشرح لهم بمناسبة وبغير مناسبة طبيعية الحياة الدنيا، وأنّها دار ابتلاء، ولهذا ففيها ظالم ومظلوم، ومعتدٍ ومعتدىً عليه، كما أنّ هذه الحياة مبنية على أن نأخذ ونعطي، ونتأثر ونؤثر، ونفرح ونحزن، وننجح ونخفق، ونظهر أحياناً في مظهر المتهور، وأحياناً في مظهر الذي عنده شيء من البلادة... وكلّ هذا بسبب ما جبلنا الله – تعالى – عليه من طباع، وبسبب السُنن والنواميس التي تحكم الحياة..

أحد الآباء أخذ في يوم من الأيام يقص على أولاده الظروف الصعبة التي مر بها وهو صغير، وكان من جملة ما قاله لهم: كان أبي فقيراً جدّاً، وكان يعمل عند الناس يوماً بيوم، وفي أيام الشتاء كان يجلس في البيت الشهر والشهرين دون أن يعمل ولو يوماً واحداً، وقد كان هذا يجعلنا نأكل وجبتين عوضاً عن ثلاث وجبات، ولم يكن لديّ في بعض الأحيان إلّا ثوب واحد، وحين يحتاج إلى غسيل كنت أجلس في المنزل حتى يجف، ولا تنتهي فترة الشتاء إلّا وقد استدان أبي مبلغاً كبيراً من المال، وفي الصيف نعيش – أيضاً – في ضيق وقلة حتى يردّ والدي المال الذي اقترضه في الشتاء... وقد لاحظ الأب أنّ عين إحدى بناته دمعتْ تأثراً بما سمعتْ، أما الابن الكبير فقد قال: إذن يا أبتي كيف دخلتَ الجامعة، وأنتم في تلك الحال؟ قال الأب: الشدة يا بني لا تدوم، ويجعل الله بعد العُسر يُسراً، فقد قامت العائلة بقسمة ميراث والد جدي، وقد كان نصيب أبي منه جيداً، وقد فتح جدكم بذلك المال بقالة صغيرة، ومن ذلك اليوم أخذت أمورنا في التحسن، وزالت بحمد الله الشدة. أحد الأبناء قال: كيف تحملتم كلّ تلك الشدة يا أبي؟! قال الأب: كثير من أهل الحي ومن أقربائنا كانوا في وضعية مثل وضعيتنا، وكنا نجد في التعاون والتعاطف والتراحم ما يخفف عنا الكثير من المصائب، وهذا حديث يطول، ويحتاج إلى جلسة خاصّة.

ب) علينا كذلك أن نشرح لأولادنا شيئاً عن طبائع الناس وعن أخلاقهم، وأنّ بينهم فروقاً فردية كثيرة، ومن النادر جدّاً أن نجد شخصاً يتفق مع شخص آخر في عقليته ومزاجه وأهوائه وحاجاته ومصالحه... وسيكون من المهم في هذا أن نوضح الأمور للصغار عن طريق الشرح المبسَّط، والسرد للأحداث والحكايات... حتى يستوعبوا ذلك، وأن نترك لهم الفرصة للحوار والنقاش والتساؤل.

أحد الآباء كان يتحدث مع أبنائه عن الانسجام الاجتماعي، وأنّ على الإنسان أن يفهم الناس بشكل جيد، وأن يساعدهم على أن يفهموه – أيضاً – على نحو جيد، وخطر في باله أن يوضِّح للصغار نقطة مهمة جدّاً، هي أنّ المرء مهما فعل فلن يفوز برضا كلّ الناس؛ لأنّ معايير البشر في الحكم على الأشياء ليست واحدة، ومن ثم فلابدّ للمرء أن يفعل ما يعتقد أنّه صواب وحقّ، مع الحرص على أن لا يفهمه الناس على نحو خاطئ، ولتوضيح هذه القضية استعان بحكاية قديمة تقول: إنّ رجلاً خرج مع ولده ابن العاشرة في رحلة إلى القرى المجاورة، راكبين على حمار، وحين دخلا القرية كان الأب راكباً والابن ماشياً، فقال بعض أهل القرية: هذا الرجل ليس عنده رحمة بالصغير، وكان عليه أن يُركبه معه، ومضيا إلى قرية ثانية، وقد ركبا معاً الحمار، فقال بعض أهل القرية: مسكين هذا الحمار: فقد حُمّل فوق طاقته، وكان المفروض أن يركب أحدهما، ويمشي الآخر، ومضيا إلى القرية الثالثة، والابن راكب والأب ماشٍ على قدميه، فقال بعض أهل القرية: هذا الفتى لا يحترم أباه؛ إذ كيف يسمح لنفسه أن يركب وأبوه ماشٍ؟! ومضيا نحو القرية الرابعة راجلينِ وقد قادا الحمار خلفهما، فقال أحد أهل القرية: هذا الشخصان غبيان: كيف يكون معهما حمار ولا يركبانه؟! هنا قال الأب لأولاده: ما الذي بقي على ذلك الرجل أن يفعله؟ فقال الكبير: بقي أن يحملا الحمار – إن استطاعا – ويمضيا به، وحينئذ سوف يُتهمان بالجنون، وضحك الجميع... قال الأب: الخلاصة يا أبنائي تكمن في حكمة قديمة تقول: "رضا الناس غاية لا تدرك".

ج) تأهيل الأولاد للحياة هو تأهيل لهم للعيش في المستقبل، ومع أنّ المستقبل غيب، لا يعلمه إلّا الله – تعالى – إلّا أنّ المستقبل هو ابن الحاضر، وكثير من أوضاع المستقبل أخذت بدايتها في الظهور الآن، وأعتقد أنّ أهم ما ينبغي أن نوضحه في هذا السياق، هو أنّ المجتمع في المستقبل سيكون أقل تماسكاً، وسيكون لتحقيق المصالح الشخصية أولوية كبيرة، وحينئذ فإنّ على المرء أن يُعدّ نفسه للكثير من الصعوبات، ولا يتوقع من الناس إلّا القليل من العون. كلّ شيء في المستقبل سيكون بثمن، وعلى المرء أن يُعِد نفسه للسفر والترحال وفراق الأهل والأحباب؛ لأنّ الفرص ستكون متحركة، وليست ثابتة في بلد بعينه، وفي المستقبل سيكون الاستقامة شأن كبير جدّاً، كما أنّ الفرص لنشر الدعوة – أيضاً – ستكون كبيرة. المهم دائماً ليس أن نعرف ما الذي يمكن أن يحدث، ولكن أن نؤهِّل أنفسنا للتعامل معه، وهذا الذي علينا أن نساعد أبناءنا عليه.

د) ستكون للأبناء والبنات – بإذن الله – أُسر في المستقبل، وسيكون لهم أولاد وبنات ومسؤوليات تربوية... وإعدادهم لكلّ ذلك جزء أساسي من مهماتنا. الأُمّهات يقمن بدور أساسي في إعداد بناتهنّ لن يكنّ أُمّهات فاضلات، وكثيراً ما ينجحن في ذلك الدور، لكن الزمان يتغير، ويحتاج إلى أن نعد الأبناء إعداداً جديداً. من المهم أن يتشكل وعي لدى فتياننا وفتياتنا بطبيعة الحياة الأُسرية، وأنّها تقوم على التنازل والتوافق والتفاهم والتضحية، وليس على المشاحة والمحاصصة، كما أنّ العلاقة بين الزوجين تقوم على مبدأ الاختلاف، وليس التطابق، بمعنى أنّ على كلّ واحد من الزوجين أن يتعامل مع صاحبه على أساس أنّه شيء مختلف عنه، ثمّ إنّ للزوج أهلاً وأرحاماً لهم عليه حقوق، وللزوجة – أيضاً – أهل وأرحام لهم عليها حقوق، كما أنّ هؤلاء وهؤلاء قد يتدخلون في العلاقة بين الزوجين، وحينئذ فلابدّ لكلّ زوج أن يساعد صاحبه على أداء ما عليه من حقوق نحو أهله، وأن يتعاونا معاً من أجل حماية العلاقة بينهما من إفساد الآخرين لها.

 

الكاتب: أ. د. عبد الكريم بكّار

المصدر: كتاب مسار الأسرة (مبادئ لتوجيه الأسرة)

ارسال التعليق

Top