• ٢٥ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٦ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

فتش عن السعادة

ديفيد ج. مايرز و إد دينر/ ترجمة: د. إبراهيم البجلاتي

فتش عن السعادة
   السعادة.. هل هي فقط تجنب الألم؟ هل تنتخب السعادة أناساً من عمر أو نوع أو جنس بذاته، أو من مستوى دخل بعينه؟ هل تكمن السعادة في العلاقات الإنسانية الحميمة؟ أم في الإيمان الديني؟ وما هي الطرائق والأنشطة والأولويات التي تمنحنا ذلك الفرح بالوجود؟ هذه الأسئلة لم تمض – فقط – دون إجابة من علم النفس التقليدي، بل هي بالأساس لم تطرح. إذ ركّز علم النفس جهوده على المشاعر السلبية البائسة أكثر من المشاعر الإيجابية. فيمكن ملاحظة أنّه بين عامي 1967 و1995 اشتملت أدبيات علم النفس على 5119 مقالاً في ذكر الغضب، و38,459 مقالاً في ذكر القلق، و48.366 مقالاً في ذكر الاكتئاب. على الجانب الآخر احتوت نفس الأدبيات – فقط – على 1710 مقالات عن السعادة، و2357 عن الشعور بالرضا، و402 في اللعب. هذه النسبة (1:21) تتغير الآن. إذ يلقي الباحثون برؤى طازجة على تلك الحيرة القديمة. وهو السعيد؟ ولماذا؟ إذا كانت هذه المطاردة العلمية لماهية السعادة قد نمت بسرعة الفطر مؤخراً، إلا أن تأمل السعادة قديم في ذاته. والفلاسفة القدماء اعتقدوا أنّ السعادة هي انعكاس للذكاء، فـ(ليس من أحمق سعيد، ولا من حكيم ليس كذلك) كما يقول حكيم الرومان شيشرو. وطوال مسيرة القرون اختلف الحكماء في رؤيتهم للسعادة، فبعضهم رأوها في الحياة الفاضلة، وبعضهم وجد أنها الانغماس في المتعة، وآخرون عرفوها كامنة في معرفة الحقيقة، وغيرهم أبصروها في معاقرة الوهم، وآخرون في الكبت، وغيرهم في التطهر من الغضب والألم. وهكذا طويلة هي القائمة، والمعنى واضح! لكن، لكي نكشف الحقيقة حول معنى السعادة، علينا أن نتساءل عن علاقة هذه الرؤى المتعارضة بالواقع. اختصاراً: أن ندرس السعادة علمياً.   - قياس السعادة (assessing happiness):

 في استطلاعات الرأي المنعقدة حول الشعور الشخصي بالسعادة، يسأل الباحثون الناس: عما إذا كانوا سعداء أم لا، وكذلك عن مدى شعورهم بالرضا عن حياتهم. فمثل اليوسفي والبرتقال تختلف السعادة عن الشعور بالرضا، لكن تظل هناك روابط كثيرة بينهما.

وفي بعض الأحيان يضع الباحثون أسئلة بسيطة مثل: كيف ترى هذه الأيام؟ هل أنت سعيد جدّاً؟ سعيد فقط؟ أم لست سعيداً جدّاً؟ وما مدى شعورك بالرضا عن حياتك الآن: هل أنت راضِ جدّاً؟ أم راضٍ فقط؟ أم لست راضياً جدّاً؟ أم لست راضياً على الإطلاق؟ باحثون آخرون يستخدمون اختبارات أخرى لقياس نسبة المشاعر الإيجابية السعيدة إلى المشاعر السلبية الكئيبة للأفراد. وعلى غير المتوقع، تبين أن كمية المشاعر الإيجابية للفرد لا تنبىء بدقة عن كمية المشاعر السلبية التي يعانيها نفس الشخص. إذا إن بعض الناس يعايشون حالات مزاجية رائقة جدّاً، وأيضاً يكابدون حالات مزاجية سيئة جدّاً. قمة القمة، وقاع القاع، وهناك آخرون سعداء بشكل خاص أو سوداويون أو محايدون وعلى الرغم من هذا التأرجح المزاجي، فإن هذا التقدير الشخصي حول الوجود اتسم بالثبات النسبي على مدار سنوات متتالية من القياس. هذا الثبات أو الاستقرار يرجح الأثر الممتد للصفات والظروف المحيطة، بينما يرجح التغير أثر الأحداث الجديدة في الحياة. لكن هل تمتلك هذه القياسات المصداقية والثقة؟ أم أنّ هؤلاء "السعداء" ينكرون مأساة حقيقية؟ إن هؤلاء الذين "أقروا" بأنهم سعداء وراضون عن حياتهم، بدوا كذلك في رأي أصدقائهم المقربين، وكذلك في رأي عائلاتهم ومقابلة المحلل النفسي. وبالمثل كان القياس المزاجي اليومي لهم يميل بقوة ناحية المشاعر الإيجابية السعيدة، فهم يبتسمون أكثر، ينفعلون أكثر بالأحداث جيِّدة كانت أم سيئة. ومقارنة بالسوداويين فإنّ السعداء بدوا أقل تركيزا على أنفسهم، أقل عدوانية وتعسفاً، وأقل عرضة للأمراض. بل هم محبون، متسامحون، حيويون، حازمون، مبدعون واجتماعيون متعاونون. أحد هؤلاء الأشخاص من أصحاب القياس المرتفع في سلم السعادة، قال: "إنّ الشعور بالذنب والقلق لهم حيز ضئيل في حياتي، فأنا أستمتع بصحبة الأصدقاء، واكتشاف الأشياء الجديدة، ولدي ذلك الشعور الداخلي بالرضا. لا أعرف هذه التأرجحات المزاجية العنيفة، وأرى المستقبل جميلاً". شخص آخر من أصحاب القياس المنخفض قال: "في عام 1985 قدرت ورتبت للانتصار، لكن حادثة دراجة نارية أخافتني منه. إن حالتي المزاجية غالباً سيئة، وأنا دائماً متوتر، ولا أحفل بما يفكر أو يشعر به الآخرون، انّه أمر شاق أن تكون مرحا". عشرات الباحثين في أنحاء المعمورة الأربع سألوا أكثر من مليون شخص – عينة كافية وممثلة للجنس البشري – عن مدى سعادتهم وشعورهم بالرضا عن حياتهم. فإذا أخذنا هذه التقارير جديا أمكننا تقديم بعض الإجابات التجريبية عن هذه الأسئلة المزمنة. ما مدى شعور الناس بالسعادة؟ ومن هو الأسعد؟   - هل أكثر الناس غير سعداء؟(are most people unhappy) :

 هناك تقليد قديم ينظر للحياة باعتبارها "مأساة" فمن سوفوكليس (Sophocles الذي كتب في "أوديب" في كولون (ألا تولد مطلقا، رغم كل شيء، أفضل" إلى وودى آلن Woody Allen في آني هول Annie hall– والذي يميز بين حياتين: المريعة والبائسة.

ألبير كامو، تينسي ويليامز، آلن درورى، وآخرون كثيرون من كتاب الرواية والمسرح يسجلون رؤاهم غير السعيدة بالإنسانية. وبالمثل، الباحثون الاجتماعيون "إن آلامنا تفوق كثيراً متعتنا – يبدو أنّه جان جاك روسو Rousseau– وإذا أخذنا كل شيء اجمالا فإنّ الحياة: ليست هبة ثمينة" ويوافقه صمويل جنسون S. Johnson– نحن لم نولد للسعادة. لكن، مؤخراً، ظهرت بعض الكتب الدافئة في (كيف تكون سعيداً؟) كتبها أناس قضوا أيامهم في معالجة غير السعداء. ففي (هل أنت سعيد؟) لدنيس هولي Dennis Wholey يفيد هاوجتون مفلن (Houghton Mifflin – 1986) أنّ الخبراء الذين التقاهم يعتقدون أن 20% من الأمريكيين سعداء. ويعلق هو قائلاً: كنت أعتقد أنهم أقل من ذلك. وفي (السعادة عمل داخلي)/ تابور 1986، يقول الأب جون باول John Powell: ثلث الأمريكيين يستيقظنون يومياً مكتئبين، والخبراء يعتقدون أنّه من 10% إلى 15% من الأمريكيين سعداء بالفعل. وهناك صورة أكثر وردية تشرق من معاينة الناس العاديين، ففي استطلاع قومي قال ثلاثة من كل عشرة أمريكيين إنهم سعداء جدّاً، وشخص واحد فقط من كل عشرة أمريكيين قال إنّه ليس سعيداً جدّاً. والباقون وهم الغالبية قالوا إنهم سعداء فقط. وبالسؤال عن الشعور بالرضى، إنّ الغالبية كانت على نفس الدرجة السابقة من التفاؤل. ففي أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية رأى ثمانية من كل عشرة أشخاص أنهم راضون أو راضون جدّاً عن حياتهم. وبالمثل فإنّ ثلاثة أرباع الناس العينة موضع البحث قالوا إنهم كانوا فخورين ومبتهجين بشكل خاص في وقت ما خلال الأسابيع القليلة الماضية. والثلث فقط كانوا يشعرون بالوحدة والملل أو الكآبة في نفس الفترة. هذه التقارير الموضوعية شملت أناساً من كل الأجناس والأعمار وأصحاب الدخول الاقتصادية المتفاوتة، وتمسكت بالاستراتيجيات المتنوعة لقياس الشعور بالسعادة في أوقات عشوائية (الاستثناءات في هذه الدراسات كانت محدودة مثل: مدمني الكحول من نزلاء المصحات، السود من جنوب أفريقيا زمن الأبرتايد، والطلاب الذين يعيشون في ظل احباطات اقتصادية وسياسية). هذه النتائج الإيجابية تتعارض مع التوقعات السلبية للكثيرين. فدارسو علم النفس كانوا يعتقدون – بشكل خاطئ – أن كبار السن غير سعداء. وثلث هؤلاء الدارسين اعتقدوا أنّ الأفروأمريكان هم بالضرورة ليسوا سعداء. وتسعة من كل عشرة دارسين اعتقدوا أنّ العاطلين عن العمل غير سعداء. لكن أليست معدلات الإصابة بالاكتئاب في ارتفاع؟ نعم هي كذلك. فالباحث الإكلينيكي إيان جوتليب Ian Gottlib يقدر أن هناك 2% من سكان العالم يعانون من اكتئاب نفسي – يتطلب العلاج – سنوياً. وفي أحد مؤتمرات الطب النفسي التي عقدت مؤخراً، وفي دراسة شملت مراكز طبية من بلدان مختلفة وجد أنّ الإنسان يقضي 9% من عمره مكتئباً. وذلك في أفضل الأحوال.   - مَن هو السعيد؟(Who is happy?) :

 أشاع علماء الاجتماع بعض الأساطير حول من هو سعيد ومن هو غير سعيد، وذلك بتحديد مؤشرات للسعادة والشعور بالرضا.

فكثيرون يعتقدون أن هناك مراحل غير سعيدة في حياة الإنسان، نموذجياً: سنوات المراهقة المليئة بالضغوط، سنوات ما يعرف بـ(أزمة منتصف العمر) والسنوات الأخيرة في حياة العجائز. لكن استطلاعات الرأي لم تبرهن على وجود مرحلة عمرية أكثر سعادة أو أكثر كآبة من غيرها. لكنهم وجدوا أنّ الاحتياجات العاطفية تتغير مع المراحل المختلفة: فالرضا داخل العلاقات الاجتماعية والشعور بالعافية يصبحان أكثر اهمية عند كبار السن. والمراهقون – على العكس من الناضجين – تتبدل مشاعرهم بين الغضب والرضا من ساعة إلى أخرى. باختصار، فإن معرفة عمر الشخص لا تعطي أي مؤشر حقيقي عن مدى شعور هذا الشخص بالسعادة والرضا. بل أكثر من ذلك فإن معدلات الاكتئاب والانتحار أو الطلاق لم تشهد أي زيادة حقيقية خلال سنوات "أزمة منتصف العمر" الأسطورية. هل السعادة تفضل نوعاً على آخر؟ هل الرجال أكثر سعادة بسبب دخولهم الاقتصادية العالية، وقوتهم الاجتماعية؟ أم هل النساء أكثر سعادة بسبب قدرتهنّ الرائعة على المحبة وروابطهنّ الاجتماعية المتينة؟ مثل العمر، لم يعط النوع أي مؤشر حول الشعور بالسعادة. صحيح أن هناك اختلافاً بين تفاعل كل من الرجل والمرأة مع حالات البؤس. ففي الأزمة يتجه الرجال إلى إدمان الكحول، بينما تنعزل المرأة وتتوتر وتصبح أكثر اكتئاباً، لكن اجمالا فكل من الرجل والمرأة يعلنون بنفس القدر عن كونهم سعداء أو راضين عن حياتهم. هذه النتيجة بنيت على قياسات أجريت حول العالم أجمع.   - الثروة والسعادة(Wealth & Well being) :

 ما زلنا في بحثنا عن السعادة نعجب: "هل الثروة تجلب السعادة؟". فإذا كانت القلة تعتقد بقدرة المال على شراء السعادة، فإنّ الكثيرين يعتقدون أن مالاً أكثر قليلاً سيجعلهم أسعد قليلاً مما هم عليه. إضافة إلى ذلك فإنّ الحلم الأمريكي منذ 1970 أصبح حياة وحرية وسعياً وراء المال. ففي عام 1995 أعلن 74% من المهاجرين الجدد إلى الولايات المتحدة أنّ الهدف الأساسي أو الأكثر أهمية في الحياة هو أن تكون غنياً، وهذا يعادل ضعف الـ39% الذين أعلنوا نفس الشيء عام 1970 وهذا الهدف يعلو قائمة التسعة عشر هدفاً الحياتية، متقدماً بذلك على إقامة عائلة – ومساعدة الآخرين وقت الشدة.

هل الثروة والسعادة – حقا – متلازمتان؟ فلنحذر ثلاثة أسئلة مختلفة ومحددة حول السعادة والثروة: بين البلدان المختلفة، داخل نفس البلد، وعلى اختلاف الوقت. أوّلاً: هل الناس في الدول الغنية أكثر سعادة من غيرهم في الدول الأقل غنى؟ هناك اختلاف واضح بين الدول في ذلك: ففي البرتغال أعلن شخص واحد فقط من كل عشرة أشخاص أنّه سعيد جدّاً، بينما في هولندا صرّح أربعة من كل عشرة أشخاص بأنهم سعداء جدّاً. قد تكون الثروة القومية مسؤولة عن هذا الاختلاف بمعنى أنّ الارتباط بين الثروة والسعادة – بالفعل – ارتباط إيجابي (رغم بعض التقارير المعاكسة التي أفادت بأنّ الأيرلنديين في الثمانينيات من هذا القرن كانوا أكثر سعادة من الألمان الغربيين!). لكن هذه الثروة القومية ذاتها ترتبط بعوامل أخرى مثل منظومة الحقوق المدنية، الحرية، كم السنوات المتوالية من الديمقراطية والتي ترتبط جميعها بالشعور العام بالرضا. ثانياً: داخل نفس البلد: هل الأغنياء أسعد؟ في البلدان الفقيرة كالهند وبنجلاديش، وجد أنّ الثراء المادي ليس ذا مدلول كبير في ميزان السعادة. إذ إنّه بمجرد أن يكون الشخص قادراً على الوفاء بالتزاماته الحياتية اليومية فإنّه لا يحفل كثيراً بزيادة ثروته، بينما في أوروبا والولايات المتحدة لاحظ العالم السياسي رونالد انجلهارت Ronald Anglehart أنّ الارتباط بين الثروة والسعادة ضعيف، بل يمكن تجاهله. حتى الأغنياء جدّاً، الذين تم استطلاع آرائهم بواسطة فوربس FORBES، فإن مائة من هؤلاء الأكثر ثروة كانوا فقط أسعد قليلا من المواطن الأمريكي العادي، ولوحظ أيضاً أنّ هؤلاء الذين زادت مدخولاتهم خلال السنوات العشر الأخيرة لم يبدوا أكثر سعادة ممن لم تزد دخولهم في نفس الفترة. كما ترجح الدراسات أن هؤلاء الذين يفوزون بورقة يانصيب رابحة، يربحون – فقط – دفعة من الفرح "المؤقت". ويبدو أنّ الثروة مثل الصحة: غيابها التام يجلب المأساة، والولع بها لا يضمن السعادة. ويبدو أيضاً أنّ السعادة ليست في أن نملك ما نريد بقدر ما هي أن نريد ما نملك. على الجانب من مصادفات الحياة يقف ضحايا المآسي. ولقد اندهشنا بالفعل حين وجدنا أنّ الأثر البعيد المدى لأحداث الحياة الجيدة والسيئة على السواء – يمكن اهماله – فالمعاقون يعايشون نفس القدر – القريب من الطبيعي – من السعادة، بما في ذلك المشلولون من ضحايا حوادث السيارات والذين يعودون إلى نفس قياس السعادة السابق للحادث. فعلى سبيل المثال أعلن الممثل السينمائي كريستوفر ريف Christopher Reeve– صاحب أدوار السوبرمان بعد أربعة أشهر من حادثه المأساوي والذي انتهى به إلى حالة الشلل الرباعي: "أنها متعة عظيمة أن تكون حيا". فإذا كانت قدرتنا على التكيف عالية، فإنّه خلال ثلاثة أشهر يختفي الأثر العاطفي للأحداث الجيِّدة والسيئة على السواء وتعود العاطفة إلى سيرتها الأولى في التفاعل مع الأحداث الجديدة. ويظن العالم والسياسي الأمريكي بنجامين فرانكلين Benjamin Franklin أنّ السعادة لا تهبها قطعة كبيرة من الثروة بقدر ما تهبها المزايا الصغيرة التي نحصل عليها كل يوم. وهكذا يقع البشر تحت التأثير القصير المدى للأحداث متناسين التأثير الدقيق الممتد للمزايا التي يحصلون عليها يومياً. وبملاحظة أنّ الحصول على مبلغ ما من النقود يعطي شعوراً منعشاً فإنّ الناس – وبشكل خاطىء – يصدقون الصورة الهوليودية لمن هو سعيد – الغنى، والمشهور، والجميل – بغض النظر عن تلك البلايين التي تنفق على مستحضرات التجميل والثياب وأدوية التخسيس. ثالثاً: هل أصبح الناس أكثر سعادة – بمرور الوقت – حين أصبحت مجتمعاتهم أكثر وفرة؟ في عام 1957 حين كان الاقتصادي جون جالبرايت John Galbraith على وشك وصف الولايات المتحدة بأنّها "مجتمع الوفرة"، كان متوسط دخل المواطن الأمريكي – بحسب الدولار ذلك الوقت – 9000$ سنوياً. ثم أصبح متوسط دخل الفرد السنوي 18 ألف $ بمعنى تضاعف الوفرة، بما في ذلك تضاعف القدرة الشرائية للنقود – إضافة إلى أننا نأكل ضعف حاجتنا، وأننا نملك أعداداً مهولة من أجهزة التكييف، وغسالات الصحون، واسطوانات الليزر وأجهزة التليفزيون الملون. فهل المواطن الأمريكي أكثر سعادة مما كان عليه قبل 38 عاماً؟ منذ عام 1955 فإن نسبة الذين أخبروا المركز القومي لأبحاث الرأي بجامعة شيكاغو أنهم سعداء جدّاً قد هبطت قليلا من 35% إلى 30%. بالمقابل تضاعفت معدلات الطلاق، زادت حالات الانتحار بين المراهقين إلى ثلاثة أضعاف ما كانت عليه، ووصلت معدلات الجريمة العنيفة إلى ستة أضعاف، وانفلتت معدلات الإصابة بالاكتئاب. وهو الحال ذاته في أوروبا واليابان. حقيقة أنّ الناس في هذه المجتمعات الغنية يتمتعون بغذاء أفضل، ومستوى أعلى من الرعاية الصحية والتعليم، وبقدر ما هم أكثر سعادة من غيرهم في المجتمعات الفقيرة. إلا أنّ الزيادة الحقيقية في الدخل المادي لم تكن مصحوبة بزيادة في مقدار السعادة – هذه النتائج تلقي قنبلة في وجه المجتمعات المادية الحديثة: إنّ النمو الاقتصادي في مجتمعات الوفرة لم يحقق تقدماً ملموساً على المستوى الروحي للإنسانية.   - في وصف السعداء (The traits of happy people): إذن، إذا كانت السعادة متاحة هكذا للجميع من كل الأعمار والأنواع والأجناس وكذلك في مختلف المستويات الاقتصادية، فمن هو إذن الأسعد؟ رغم تقلبات الحياة إلى أعلى وإلى أسفل فإن بعض الناس تظل قدرتهم على الفرح كما هي. ففي استطلاع قومي شمل خمسة آلاف شخص ناضج تبين أنّ الأكثر سعادة في 1972 ظلوا – تقريباً – كما هم بعد عقد كامل من الزمان، رغم تغيير وظائفهم وسكنهم وحالتهم العائلية. وفي دراسة تلو أخرى تبين وجود أربع سمات أساسية لهؤلاء السعداء: أوّلاً: حب النفس، وبخاصة في المجتمعات الغربية الفردية. ففي اختبارات تقدير الذات Self-esteem وجد أن هؤلاء الأشخاص وبشكل اتفاقي يستخدمون عبارات مثل (انّه لشيء جميل أن تكون بصحبتي) أو (أن لدي أفكاراً رائعة) وكما هو متوقع من هؤلاء الأكثر سعادة من غيرهم فإن تقديرهم لذاتهم يكون إيجابياً، وحقيقة كذلك أنهم يظهرون الكثير من المحاباة لأنفسهم، فهم يعتقدون أنهم أكثر ذكاء، وأفضل أخلاقا، وأقل تعجلاً في الحكم على الأمور، وأكثر قدرة على معايشة الآخرين من غيرهم. مثل هذه الأمور تذكر بتلك المزحة التي أطلقها فرويد عن رجل قال لزوجته: "إذا كان يجب أن يموت واحد منا، فإنني سأذهب وأعيش في باريس". ثانياً: ضبط النفس Self-Control بمعنى الشعور بالقدرة على مواجهة ظروف الحياة وليس بالعجز أمامها، فهم يؤدون بشكل حسن في سنوات الدراسة، يكتسبون الخبرات بسرعة، ولديهم قدرة خاصة على مواجهة الضغوط. فالحرمان من هذه القدرة – كما أثبتت الخبرات المدونة للمساجين، وللعجائز في بيوت المسنين والعائشين تحت أنظمة حكم قمعية – يوهن الجسد ويأكل الروح. والفقر المدقع يضعف الروح المعنوية للناس حيث تتآكل قدرتهم على التحكم في مجريات حياتهم. ثالثاً: التفاؤل، فالسعداء غالباً متفائلون ومن الممكن ملاحظة أنّ المتشائمين ممن تصدق توقعاتهم السيئة، دائماً يصابون بالدهشة أمام الفرح. (سعيد هو من لا يحلم بشيء: فلن يخيب رجاؤه) كما يقول الشاعر الكسندر بوب في رسالة من عام 1727. وبعيداً عن ذلك، فإن أصحاب التفكير الإيجابي المتفائل – هؤلاء الذين يقولون، على سبيل المثال، حين أشرع في عمل جديد فإنني أتوقع له النجاح – دائماً يكونون أكثر نجاحاً وصحة وسعادة. رابعاً: الانبساط (بمعنى الانفتاح على الآخرين) ربّما نعتقد أنّ الانطوائيين أكثر سعادة في ظل صفاء تأملاتهم. إلا أنّ الانبساطيين أكثر سعادة منهم سواء في وحدتهم أو بصحبة الآخرين، وسواء عاشوا بالريف أو بالمدينة، وكذلك سواء كانوا يعملون بشكل فردي أو في أعمال جماعية. مع كل واحدة من هذه المميزات فإنّ الدلالات تظل غير واضحة تماماً. بمعنى، هل تجعل السعادة أصحابها أكثر وداداً؟ أم أنّ الودودين – بطبعهم – أكثر حيوية، وأقل توجساً من معايشة الآخرين. هذا النزوع ربما يشرح زواجهم المبكر، حصولهم على وظائف أفضل وكثرة أصدقائهم إذا كانت هذه الصفات تجلب السعادة – حقا – فإنّ الناس يمكنهم أن يكونوا أكثر سعادة مما هم عليه لو تصرفوا كما لو كانوا يملكون هذه الصفات بالفعل. وقد أثبتت التجربة أنّ الذين "يدعون" تقديراً أفضل لأنفسهم ويتصنعون الابتسامة هم بالفعل أسعد من غيرهم. كذلك يبدو أنّ السعادة تتأثر قليلاً بالمادة الوراثية. ففي دراسة اشتملت على 254 من التوائم المتماثلة وغير المتماثلة. وجد العالمان النفسيان ديفيد ليكن David Lykken واوك تيللجن Auke Tellegen أن 50% فقط من منسوب السعادة تحكمة العوامل الوراثية. فحتى التوائم المتماثلة إذا تم التفريق بينهم فإنّهم يحملون نفس القدر من السعادة. اجمالاً، واعتماداً على توقعاتنا وخبراتنا الحديثة نسبياً فإن سعادتنا تدور حول نقطة مركزية نقترب منها أو نبتعد عنها بما يجعل البعض سعيدا والبعض شقياً.   - السعداء والعلاقات الحميمة:

 العلاقات الحميمة بدورها تضع علامتها على الحياة السعيدة. ومن السهولة تخيل كيف تؤدي ضغوط العلاقات الحميمة إلى تفجرات الألم والبؤس. وفي رأي جان بول سارتر أنّ الجحيم هو الآخرون).

لكن لحسن الحظ، فإنّ فائدة العلاقات الحميمة سواء مع الأصدقاء، أو في ظل الأسرة تفوق آلامها. ومقارنة بهؤلاء المحرومين من هذه العلاقات الحميمة فإن هؤلاء الذين يستطيعون ذكر عديد من هذه العلاقات الطيبة يعيشون أفضل ويكونون أقل عرضة للموت المبكر وهم أكثر سعادة بالفعل. ومما وجده العالم النفساني وليم بافوت W. Pavot أنّ الناس يكونون أكثر سعادة في حضور الآخرين. ولوحظ أن تسعة من كل عشرة أشخاص يضعون الزواج باعتباره البديل الحقيقي للوحدة. على الرغم من أنّ النهايات الدرامية للزواج تحمل مأساة حقيقية، إلا أن علاقة زوجية ناجحة تعتبر من أكثر الاهداف الجالبة للسعادة والرضا على حد قول هنري وارو بشير H. W. Beecher: (زواج سعيد: إنسان مجنّح، زواج تعيس: إنسان مصفد). وفي دراسة أجراها المركز القومي لأبحاث الرأي فإن ثلاثة من كل أربعة أشخاص صرحوا بأن زوجاتهم هي خير صديق لهم، وأربعة من كل خمسة أشخاص صرحوا بأنهم سيتزوجون من نفس الشخص مرة أخرى لو عاد الزمان إلى الوراء. ربّما يفسر هذا – خلال السبعينيات والثمانينيات من هذا القرن – لماذا كانت نسبة السعداء بين المتزوجين أعلى منها لدى غير المتزوجين (37% إلى 24% على الترتيب). لكن هل يجلب الزواج السعادة للرجال أكثر مما يجلبها للنساء؟ في كل من أمريكا الشمالية وأوروبا، أثبتت نتائج الأبحاث أن نسبة السعيدات من المتزوجات أعلى من نسبة السعيدات بين غير المتزوجغات. المئات من الدراسات أثبتت ذلك: رغم أنّ الزواج التعيس يجعل المرأة أكثر اكتئاباً من الرجل، إلا أنّ الأسطورة التي تدعي أنّ المرأة الوحيدة أسعد من المرأة المتزوجة عليها أن تذهب إلى النسيان.   - إيمان السعداء: (الفرح هو العمل الجاد للسماء) هذا ما قاله س. إس لويس وعلى العكس منه يذهب النفساني الشهير فرويد (الدين ليس سوى وهم يأكل السعادة، أو يتحول إلى مرض – وسواس عصابي – obessesional neurasis يصحبه الشعور بالذنب والضعف الجنسي والكبت العاطفي. لكن تتعارض المعطيات المتنامية مع حدس فرويد، فالمتدينون النشيطون أقل عرضة لإدمان الكحول والعقاقير الأخرى، وهم أقل خرقا للقانون، أقل اقترافاً للطلاق وأقل إقداماً على الانتحار. وفي أوروبا الغربية والولايات التحدة فإن هؤلاء المتدينين النشيطين أسعد بمعدل الضعف من غير المتدينين. وهناك دراسات أخرى وجدت أنّ السعادة والرضا عن الحياة يزدادان مع قوة الإيمان الديني ومعدل ممارسة العبادات. وفي دراسة احصائية بين العجائز وجد انّ التدين هو أحد أهم المؤشرات على درجة الرضا عن النفس والشعور بالسعادة. وبينت دراسة أخرى الرابطة القوية بين الإيمان الديني والقدرة على التعامل مع الأزمة، ودراسات أخرى بينت أنّ النساء حديثات الترمل من المؤمنات أسعد من الأرامل من غير المؤمنات. وأنّ الأُمّهات – عميقات التدين – لأطفال معاقين أقل عرضة للاكتئاب مقارنة بمثيلاتهنّ من غير المتدينات. ونفس هذه الملاحظة تنطبق على حالات الطلاق والبطالة والأمراض الخطيرة. فما الذي يشرح هذه الرابطة الإيجابية بين الإيمان والسرور؟ أحد التفسيرات المحتملة هو ذلك الدعم الروحي للعلاقات الحميمة التي تنشأ داخل التجمعات "الإيمانية" إضافة إلى الإحساس بالمعنى والهدف مشمولا بالتركيز على الآخرين أكثر من الذات. وقد وجدت منظمة جالوب Gallup Organization أنّ مشاركة المتدينين في الأعمال التطوعية هي ضعف النسبة العادية، وكذلك نسبة المشاركة في الأعمال الخيرية والتي تصل إلى أربعة أضعاف. المشاركة بين غير المتدينين. فالنظرة الدينية للعالم يمكن أن تقدم للناس إجابة مريحة عن أسئلة الحياة العميقة، وتعطيهم تقييما تفاؤلياً لأحداث الحياة. وهكذا يعطي الإيمان الأمل في مواجهة رعب الموت. هذا التفسير ذاته يحتاج إلى مزيد من الاستكشاف. اجمالاً، فإن معرفة عمر الشخص وجنسه ومستوى دخله المادي (بافتراض أنّ هذا الدخل يفي بالتزاماته) لا يعطى دلالات دقيقة على مدى سعادته. وقد أثبتت الأيام صحة ما حدس به الشاعر الانجليزي وليم كوبر عام 1782: أنّ السعادة لا تعتمد على المظاهر الخارجية كما يعتقد الكثيرون. دلالات أفضل يمكن تلمسها بمعرفة المميزات الشخصية: ما إذا كان الشخص يتمتع بمنظومة قوية من العلاقات الحميمة، وما إذا كان الشخص مدعماً بالإيمان الذي يمنح الأمل ويوضح الهدف. دراسات أخرى أضافت التحقق من العمل كإحدى الدلالات المهمة، وكذلك الأنشطة التي تمارس في وقت الفراغ – تحديداً الأنشطة التي تبين حالة نكران الذات في مواجهة العكس. ومازالت هناك دراسات كثيرة تحاول اكتشاف السعداء من خلال نمط الحياة، النظرة الثقافية للعالم والسعي وراء الأهداف. هذا المبحث الجديد من السعادة هو إضافة إيجابية لكل من النظرة الاجتماعية للسعادة الجسدية والمادية وللنظرة السيكولوجية والتي ركزت طويلاً على المشاعر السلبية للبشر.

بالسؤال عمن هو السعيد؟ ولماذا؟ تفتح النظرة العلمية الطريق أمام الناس لوضع أولوياتهم موضع التساؤل. وتفتح الطريق أمامنا جميعاً للعمل من أجل عالم يدفع السعادة الإنسانية إلى الأمام.

* ديفيد مايرز هو أستاد علم النفس في "هوب كوليج" Hope College وإد داينر هو أستاذ علم النفس في جامعة إلينوي

ارسال التعليق

Top