• ٣ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الإنسان.. صانع المعرفة

وهيب سراي الدين

الإنسان.. صانع المعرفة
طبيعة الحياة العملية التي يعيشها الإنسان، جعلته وجهاً لوجه أمام مقارعة الطبيعة نفسها، وممارسة الاختبارات فيها، والاحتكاك بالواقع، الأمر الذي جعل لديه تفاعل العقل والعمل، الفكر والتجربة، وهذا ما آل إلى استنتاج الحقيقة الغنية، الصالحة لبناء الحضارة بكل معطياتها العلمية والتكنولوجية والاجتماعية، والاقتصادية. وهكذا نرى أنّ الإنسان بفطرته على العمل، وبمعايشته للواقع، يكون أكثر المخلوقات التصاقاً بالحقيقة ومساهمة في صنع المعارف، ومشاركة في نقلها وتقديمها كغذاء دسم للحضارة الإنسانية، هذه الحقيقة التي نبتت مع المعارف العلمية على جذور عملية راسخة، وارتكزت جميعها إلى أصول واقعية في التجربة الحية، واتخذت مفاهيمها في التطور والتقدم، في العصر الحديث، وبخاصة مفهوم الحقيقة النسبية التي تحطمت على مبدئها الحركي الدائم، مبادئ الحقيقة الثابتة أو المطلقة. ومن تأثير الحقيقة الواقعية النسبية على مبدأ الحقيقة ككلِّ، واعتدالها عن المفاهيم المطلقة. تأثرت الحركة الفكرية في العالم، فانعطفت حركة الفلسفة عن مفهومها المثالي البحت، واتجهت نحو الواقعية التجريبية، وأصبحت تعني بمضامينها الجوهرية جملة القوانين المكتسبة بالتجربة أي بالعمل وليس بناء على مفاهيم مسبقة الصنع ثابتة وآراء فردية ذاتية، قال أحد الفلاسفة المحدثين "إنّ الفلسفة الحقيقية يجب أن تعنى لا بمجرد التأمل، ولكن بوحدة الفكر والعمل". لذا، الفكر يتخصب بالواقع والعمل معاً، ويطرح علمياً ما يعرّيه من المساهمة العملية والتجارب الواقعية الحية التي أغنت الذهن الإنساني في حقائق الأشياء وزادت من معارفه في جوهرها ومضامينها، لذا يجب استيعاب هذه الحقيقة التي لا جدال فيها وهي أن يترتب على المفكر المنظر أن يتمسك بالواقع الحي الخصب، والوقائع الدقيقة الملموسة من أجل تبيان الجوهري العام في إعطاء تقدير تقريبي لتعقد الحياة، يقول (غوته) في مأساة (فاوست): "إنّ النظرية رمادية اللون يا صديقي، ولكن شجرة الحياة خضراء إلى الأبد". فالحقيقة بين النظر والعمل الحي إدراك موضوعي يتولد بفعل الوعي الناتج عن التفاعل المتجدد مع الوسط الخارجي والتلاؤم المستمر مع ضرورات ومتطلبات الظروف. وأمام هذا المفهوم الجديد للحقيقة ومنطلقها العلمي – العملي، يحضرني أن أسجل اعترافاً للفيلسوف الفرنسي الشهير (هنري برغسون) قال: "المعرفة لم تعد نتاجاً للعقل وإنما تصبح بمعنى ما جزءاً لا يتجزأ من الحقيقة الواقعية.. الشيء الخليق بالإعجاب، والجدير بالدهشة هو الخلق المتجدد المستمر الذي تقوم به الحقيقة الواقعية الكلية غير المنقسمة... أنّ الحقيقة الواقعية هي نمو مستمر وخلق متتابع لا نهاية له". يتحمس للفكرة الفيلسوف الفرنسي (مارسيل غابريل) فيحكم بإدانة كلّ من يخالف هذا المبدأ، وعلى كلّ، تحصل من هذا النهج للحقيقة الاهتمام بالرأي العام، أو بالفكر المتولد عن "الكثرة" إذ يعتبرها المعين الأوّل للتعليم واستلهام الحقائق والمعارف، والنظر بموضوعية في جوهر الأشياء، يقول أحد المفكرين في هذا الصدد: "يتهموننا بأننا نخترع رأي جماهير الناس، إننا نصوغ هذا الرأي فقط". وهذا يكون استناداً إلى العلاقة الجدلية – الديالكتيكية التي تربط بين العامل البشري وبين العامل الموضوعي، حيث يعني بالعامل الأوّل أسس الممارسة الإنسانية الواعية لتغيير المجتمع والطبيعة، وبالعامل الثاني يعني انعكاسات ومعطيات الأحوال الاجتماعية السائدة ومنها الاقتصادية والثقافية إلخ... ومن هذه العلاقة الجدلية انحصر الحصول على الحقيقة في طريق تحقيقها على الأيدي العاملة بكلِّ ما لكلمة "العمل" من معنى، قال الفيلسوف اليوناني (آنا كوغوراس) في هذا الموضوع: "إنّ عمل العقل الإنساني ما هو إلا محصول عمله اليدوي". وهذه الفكرة يعيد صياغتها الفيلسوف (هنري برغسون) يقول: "إنّ الصفة الجوهرية للإنسان هي أنّه كائن عامل، فعقله لم يتكون ويتطور إلا لأنّ له يدين تصنعان الآلات" أي الذي يخوض غمار الحياة والعمل يتعلم كما يتعلم من الكتب، فقال فيلسوف آخر: "إنّ الحياة خير معلِّم". وهكذا يتم خلق الأفكار والمفاهيم في الواقع والحياة، نلمسها من خلال الممارسة والتجربة والاحتكاك العملي لها في الطبيعة والأشياء، ويرفعها الذهن من درجة الفهم، وتجريد الوقائع إلى مرتبة الوعي الموضوعي والنضوج الذاتي. إذن يجب التركيز على التفكير داخل الحياة القائمة على النشاط البشري وما تصنعه الطاقة المختزنة في أفراده، تبقى آخذة في حركتها مفهومها التاريخي المبني على مبادئ الجدل الموضوعي القائم على الصراع الدائم والمستمر في الوجود. وهكذا يتبلور أكثر القياس الموضوعي في معرفة جواهر الأشياء... وعنصر الرؤية للذات التاريخية في "الحقيقة" التي لا تعيش إلا في نهر الحياة الواسعة.   المصدر: كتاب في معنى العمل

ارسال التعليق

Top