• ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

القرآن الهداية المُثلى

اسرة

القرآن الهداية المُثلى

◄إنّ ألزم الأمور التي ينبغي أن يعلمها الإنسان، هي معرفة مبدئه ومعاده. وإنّ أحطّ ضروب الجهل، أن يجهل الإنسان من أين بدأ حياته، وإلى أن سيصير.

وليست على وجه الأرض فلسفة شاملة، تُفسِّر لنا الكون والحياة والإنسان على أُسسٍ لا يملك العقل السليم إلّا الإذعان لها، والانقياد إليها كالفلسفة الإسلامية الفذّة، التي لا تدع مجالاً للرّيبة أو الشكّ، في قوّة حُججها وبراهينها، لِمَن ألقى السمع وهو شهيد. والقرآن الكريم في فلسفته عن الكون والحياة والإنسان، سمقَ سموقاً بعيداً عن خرافات (الطّفرة)، و(الصِّدفة)، و(تنوّع الأنواع)، و(القول بالمادّة)، ونحوها من المقولات التي جاءت عليها المُكتشفات الحديثة، والتجارب العلمية، ورمتها في زاوية الأفكار البائدة، والنظريات الكاسدة.

في حين أكّدت هذه التجارب والمُكتشفات، كلّ ما أشار إليه القرآن، من أُمّهات العلوم، وصدّقته فيما ألمحَ إليه من عجائب الأمور.

وليس على وجه الأرض، كتاب دين مثل القرآن يدلّ على العلم، ويدعو إليه ويُثبِّت عليه، ويحثُّ على الاختراع والاكتشافات، والبحث والتحرِّي، ويجلّ العلماء، ويرفع مكانتهم، ويعلي شأنهم.

والعلم الذي يدعو إليه القرآن، هو علم نافع، سواء علم الأديان أو العقائد أو العبادات أو علم الأبدان، أو علم طبقات الأرض، أو علم الأجنّة، أو علم الصحّة الغذائية أو الوقائية، أو علم الفضاء، أو غيرها من العلوم التي تطرّقت إليها الآيات الكريمة والتي لا مجال لبيانها في هذا الموجز.

وممّا يمتاز به القرآن الكريم على كتب الأديان البحتة، وكُتُب العلوم البحتة، أنّه يوحِّد ويربط بين دقائق المخلوقات، وعجائب الكائنات، وبين الصانع القادر جلّ شأنه من حيث الخلق والتدبير والتصرّف والتنظيم وحدة الإرادة والقصد والنظام.

إنّ تحطيم الذرّة قد حطّم كلّ فكرة لا تتصل بالله تعالى، لما في الذرّة من قوى هائلة، ونظام دقيق، سبق للقرآن الكريم أن سجّل كشفاً عنها يذهل العقول حين أشار إلى الزوجية في كلِّ شيء، وكان العلماء يعتقدون جازمين أنّ الذرّة أصغر ما في المادّة.

وفي عصرٍ كان العالَم فيه يغطّ في سُبات عميق، أوضح القرآن الكريم، ما أودعَ الله تعالى في الإنسان من قدرات، تؤهِّله لغزو الفضاء وتسخير الكواكب والشموس، وجميع الطاقات الكونيّة لصالح البشرية، لأنّ الله تعالى أخبره: أنّه جلّ شأنه سخّر للإنسان جميع ما في السماوات والأرض لخدمة مصالحه في كثير من الآيات.

وإنّ تمزيق شرنقة الجمود الفكري والعلمي، والصعود إلى القمر وغزو المرِّيخ وغيرها، ليكشف جليّاً عن دقيق صنع الله تعالى وحكمته، في تدبير الكون، وعظمة سلطانه من جهة، ويكشف عن مدى التفوّق العلمي والتقدّم الحضاري الذي تضمّنه القرآن وهيأه للبشرية، في سبيل هدايتها، وإرشادها لما يسعدها.

ومن الملامح البارزة في القرآن الكريم، أنّه لم يعوِّل في مجال هدايته على أمر مثل تعويله على القضايا العلمية الكُبرى. ففي القرآن الكريم مئات الآيات الهادفة إلى هداية الإنسان إلى ربِّه الكريم، ولكنّها تتعرّض إلى أخطر وأدقّ النواحي المتعلِّقة بالطبيعة أو الحيوان أو النّبات، في سياق التدليل على عظمة الله ووحدانيّته، ولزوم شكره وطاعته واتِّباع منهجه المُنزَل وشريعته الغرّاء.

فمن الآيات التي وردت في سبيل هداية الإنسان وتضمّنت كُبريات المسائل العلمية، قوله تعالى:

(خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ * هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (لقمان/ 10-11).

وقوله سبحانه:

(لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (يس/ 40).

(سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) (يس/ 36).

(لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين/ 4).

ومن القضايا النفسية والسلوكية التي أثارها القرآن، قوله تعالى:

(كَلا إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) (العلق/ 6-7).

(إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ *وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ *وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) (العاديات/ 6-8).

هذه الآيات، وكثير غيرها، لفتَ القرآن الكريم، نظر الإنسان إليها، واستنطقها لتُعلِن عن أسرار خلق الله، وعظيم صنعه، وليقف العقل الإنساني على دقّة ووحدة نظام الكون، الهادف إلى سعادة الإنسان.

وبالهزّة العقلية التي أحدثها القرآن في مجال العقيدة والفكر، وبالأسلوب البرهاني الاستدلالي، أزالَ خرافات الإلحاد، وصدأ الشِّرك والوثنيّة، ولم يقف عند هذا الحدّ، بل مدّ الإنسانية بينبوعٍ لا ينضب من التشريعات العامّة الشاملة، ليهدي الإنسان إلى ما يفيده وينفعه ويصلحه، يجنِّبه الوقوع في المخاطر والمهالك، وليقيم الإنسان حياته الفردية والاجتماعية على دعائم ثابتة راسخة، تتّفق وتتلائم مع سنن التطور والتغيُّرات في البيئة والظروف.

وأشاعَ القرآن في النفس الإنسانية روح الطمأنينة والاستقرار، وأودعَ فيها شعاع التفاؤل والطموح، وغذّاها بمشاعر الحبّ والوئام، وروّضها على تحدِّي العقبات وتجاوز الصعوبات، وحرّرها من كلّ العبوديات المادّية والشهوانية، وكلّ أشكال السيطرة، وأوثق صلتها بربِّ العالمين. فحقّق في هذا المجال ما لم تستطع تحقيق بعضه أيّة ثورة إصلاحية في العالم.

وحسبنا أن نشير هنا إلى ما يسود العالم اليوم من تخوّف غير مشروع ونزعة تشاؤمية مريرة قاتلة عن (القحط) في الغذاء الذي يظنّ أنّه سيسود العالم قريباً نظراً لتزايد السكان غير المتناسب. والقرآن الكريم اجتثّ هذه النزعة من جذورها ولفتَ نظر الإنسان إلى كنز الثروة التي مَنّ الله بها المرئية وغير المرئية ممّا يحصل معها الاستبشار، والغبطة والفرح، بتوازن الموارد والاستهلاك، وكفاية الغذاء للبشرية مدى ملايين الدّهور.

قال تعالى: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ) (لقمان/ 20).

ولعلّ من النِّعم الباطنة ما يدأب العلماء على تحقيقه من استخدام الذرّة لصنع أنواع الغذاء لمدّة ملايين السنين وليس أمامهم من عقبةٍ سوى طريقة التخلّص من الفضلات المُشعّة الناجمة عن تحطيم الذرّة.

والقرآن الكريم - في هذا المجال - في الوقت الذي يُقرِّر جهل مَن يدّعي أنّه بلغ سنام العلم وأدرك غايته... (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا) (الإسراء/ 85). ويُقرِّر سذاجة التفكير التشاؤمي: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) (الروم/ 7). فإنّ القرآن يؤكِّد كفاية نِعَم الله لخلقه: (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (إبراهيم/ 33-34).

فتسخير الشمس للإنسان مصدر هائل من الطاقات التي يمكن استخدامها في مختلف المجالات كما أنّ نِعَم الله من الكثرة والخفاء بدرجةٍ لا يقدر على إحصائها أحد: (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (النحل/ 17-18). وما الفقر إلّا نتيجة سوء توزيع الثروة لا لعدم كفايتها.

فتظهير العقيدة، وتنظيم التشريع، وتزكية الطِّباع والأخلاق، بأسلوبٍ يطابقُ الفطرة ويتّفقُ مع سنّة الله في التطوّر، ويطابق أحدَث المُكتشفات العلمية، هذا الدور الجبّار الذي مارسه القرآن الكريم، نقلَ الأفراد والجماعات البشرية نقلة عملاقة، تلاشت عندها مآسي الضلالات، وتحطّم جبروت السلاطين والطواغيت، وزال كابوس الجبابرة، ممّن فرضوا على الناس ألوهيّتهم الكاذبة، وأشرقت الأرض بنورِ التوحيد والعلم والمعرفة التي شعّت من آيات القرآن الكريم متخطِّية حدود الأجيال وأبعاد الزمن، شاملة الإنسانية في كلِّ أدوارها وأطوارها.

فهل يوجد معنى للهداية والرشاد، والأخذ بيد البشرية - كلّ البشرية - إلى المستقبل الأفضل، والعيش الأرغد، أسمى ممّا أنجزهُ القرآن الكريم وحقّقهُ في مجالي النظريات والتطبيقات.

وهل أمكن للإنسان (العلمانيّ) أن يُحقِّق في أيّ مجال من مجالات الحياة العامّة والفرديّة أدنى ما حقّقه الإنسان (القرآنيّ) بأوّل دفقة شعاع أشرقت من القرآن؟

وهل شُيِّدت على كوكبنا الأرضي حضارة تُضاهي بل تُداني بعض ما شيّدهُ إنسان القرآن، من حضارة على أُسس من الأخاء الإنساني، والمساواة التامّة، والعدالة الشاملة، والخير العميم والاستقرار الاجتماعي وسائر الحقوق التي تثور من أجلها شعوب العالم اليوم..؟►

ارسال التعليق

Top