• ٣٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الحجاب يحفظ مكانة المرأة

د. زهير بيطار

الحجاب يحفظ مكانة المرأة

لم يكن الإسلام وهو النظام الكامل الشامل لكلِّ نواحي الحياة البشرية ليهمل موضوع زي المرأة في المجتمع، لا سيما بعد أن أولاها عناية خاصة، وجعل لها مكانة مميزة، تستند جذورها إلى العقيدة وتمتد إلى الأخلاق. ومن مزايا الإسلام، أنّ تشريعاته تترجمُ عقيدته وقيمه وتستند إليها، لا إلى مصالح آنية متغيرة، وإن كان لهذه المتغيرات في إطاره العام مكان تحظى فيه بمستلزماتها، لكن دون ما أن تلغي الخطوط التي تعبّر عن أصالة اإنسان وحالته المميزة له عن باقي الأحياء، والتي يهدف ثباتها في المجتمع البشري إلى صيانة ذلك. ولا يمكن فهم أي تشريع إسلامي إلا على ضوء العقيدة والقيم التي أراد الإسلام بناءها في حياة البشر، وفهم تشريع الحجاب يكون من خلال سبر أبعاده هذه في العقيدة والأخلاق، والآثار الخطيرة المترتبة على كثير نواحي الحياة البشرية، مما يجعله ظاهرة تميّز الثقافات المستندة إلى الإسلام عن الثقافات المغايرة عبر التاريخ، والتي نموذجها ثقافة الغرب المعاصرة، لذلك لابدّ لاكتمال الصورة من السبر المقارن بين الأبعاد هذه  في الإسلام ومدنية الغرب.

 

ما هو الحجاب؟

الحجاب الإسلامي هو حدود على لباس المرأة وسلوكها العام، ويقصد منه حجب فتنتها فلا يكون نظر الآخرين إليها من خلال مفاتنها الجسدية بل من خلال موقفها الإنساني، وهذه الحدود هي ألا يُقصد في اللباس والسلوك الإفتان، فاللباس يستر كلّ أجزاء الجسم ما عدا الوجه واليدين، ولا يكون ضيقاً يظهر تفاصيل الجسد، والسلوك لا يكون متصنعاً للفت الانتباه إلى هذه المقاتن.

 

لزوم الحجاب؟

أما لزوم الحجاب، فبكلّ بساطة هو لزوم الحدود لكلِّ سلوك. فكما أنّ الحرية هي من لوازم السلوك البشري، فإنّ الحدود هي من لوازم كلّ حرية حتى لا ينقلب السلوك فوضوياً يعرض مصلحة الجماعة إلى الميوعة والفوضى. واللباس كمظهر سلوكي يندرج في هذا السياق، والحدود التي يطلبها المجتمع على هذه الظاهرة تأتي حسب خلفيته الأخلاقية فتترجم قيمه وتوجهاته.

فالإسلام يفترض في اللباس إخفاء فتنة المرأة، ولذلك سمي بالحجاب، بينما في المجتمع الغربي يقصد منه إبداء هذه الفتنة وتعظيمها وإبرازها. فالقصد مختلف لاختلاف زاوية النظر إلى المرأة بين المجتمع الإسلامي والمجتمع الغربي المعاصر، واختلاف البنية الأخلاقية لكلِّ منهما.

 

خطوط التباين بين الإسلام والمجتمع الغربي:

فالمجتمع الغربي تشكل القوة المادية الأساس في بنائه الاجتماعي والخلفية الرئيسية لقيمه، وتطلعاته، دونما الاستناد إلى قاعدة واضحة من الأيديولجية والأخلاق تكون القوة المادية منضبطة بهما، بل كثيراً ما تملي هي الأخلاق والقيم حسب ضروراتها. فإذا فهمنا هذا أصبح من السهل فهم كثير من ظواهر السلوك الغربي المستندة إلى أنّ الغاية تبرر الواسطة.

ومن الزاوية نفسها نفهم موقف الغرب من اللذة الحسية لكونها مظهراً للرخاء المادي، فهي عوضاً عن أن تخضع لأخلاق وضعت لتعكس وجه الإنسان الصالح، فإنّها هي التي تملي الأخلاق في إطار ضروراتها، لذلك كانت الإباحية الجنسية، وممارسة الجنس العلني أو الجماعي وتقديس جمال الجسد كمظهر مادي يعكس طغيان القوة المادية على تطلعات الغربيين. والعري العلنيُّ ولباس المرأة القائمُ على أساس التعرية وإبراز فتنة الجسد يقعان في الإطار العام لهذين التوجهين، طغيان الوجه المادي لشخصية الإنسان على المجتمع وموقف المجتمع من اللذة الحسيّة.

كذلك استعمالُ جسد المرأة في حقل الانتاج من دعاية وإعلان وتجارة وسياحة وتسلية، ما دام ذلك يروّج للمنتجات ويزيد الدخل والثراء، فالغاية تبرر الواسطة، والقوة المادية وضرورات الحصول عليها هي الخلفية لكلِّ تلك الظواهر. والمرأة تقع في هذا الإطار، فهي عملياً وسيلة إنتاج، أوّلاً بما تقدمه من جهد وذكاء وهذا وجه إيجابي، وثانياً، وهو العنصر السلبي باستغلال جسدها لغايات انتاجية لما في ذلك من تأثير على شد انتباه الجمهور، ومن إثارة جنسية تجعل المادة في موضع الإعلان مقترنة في مخيلة الجمهور بالجنس، فجسد المرأة هو وسيلة الإعلان الحاسمة التي ابتكرها الغرب في كلِّ وسائل الإعلام والدعاية عن طريق لفت الانتباه بالحضور المباشر للأنثى تارة، وبما يفعله جسدها بما تعمدت من تعرية أجزائه تارة أخرى، في كافة المرافق والأمكنة، وهي فوق ذلك وسيلة للترفيه الجسدي في علب الليل.

فمن الواضح أنّ جسد المرأة وما يفعله في المشاعر أصبح وسيلة للكسب ومادة للبيع والشراء، وهذا يسير في السياق ذاته مع ما يحدث في بعض البلدان في أحياء خاصة للبغاء، وظاهرة تعري المرأة على شاشة التلفزيون أمام الملايين في بلدان أخرى هي كذلك في هذا السياق، فجسد المرأة هنا وسيلة للتسلية الجنسية العامة. وإن كان كلّ ذلك يعكس تغلب الناحية المادية في نظرة المجتمع للمرأة على ناحية قيمتها الأخلاقية، فإنّ ما فيه من تمريغ لقيمة المرأة والنوع الإنساني عامة ما لا ينكر.

إنّ كلَّ الظواهر السلوكية المذكورة أعلاه، يسهل فهمها في مجتمع تشكل القوة المادية بكلِّ مظاهرها نقطة البدء في تكوينه والأساس في بنائه لتأتي القيم الأخلاقية تالية لها، وعلى ضوء ضروراتها التي هي المتحكم الرئيسي في العلائق البشرية داخلياً وخارجياً والمحرك الرئيسي للسلوك والخلفية الأهم للتطلعات والتوجه.

 

نظرة الإسلام للمرأة والحجاب:

أما موقف الإسلام فمغاير كلياً كما يعكسه القرآن الكريم والسنة الشريفة لا كما يعكسه واقع المسلمين المنحرف عنهما في كثير من العصور، هذا الموقف ينبثق من حقيقة أنّ البناء الإسلامي يقوم على أساس من العقيدة والأخلاق والقيم التي تعكس أصالة الإنسان والخطوط الرئيسية للشخصية الإنسانية السليمة، وتحدد توجهات الشريعة وتطلعات المجتمع. والاختلاف كبير كما هو واضح بين هذا الموقف وموقف الإسلام العقيدي من المرأة هو على أنّها أم المجتمع ونظرته إليها هي أنها ككلِّ إنسان يجب أن يكون موقف المجتمع ونظرته إليها من خلال موقفها الإنساني الذي يُقيّم في ظل ذلك المناخ العقيدي الأخلاقي بالقيمة الأخلاقية بما يقدمه الإنسان للناس لا بمقدار ما يتمتع به من مزايا مادية في الغنى والجمال والسيطرة. وجمال جسد المرأة كمظهر مادي ليس قيمة يعلن بها، بل قيمته بمقدار ما يحقق من قيمة أخلاقية، وذلك بتحقيق أمومه أمثل وأسرة أكثر استقراراً وقوة تساهم في بناء مجتع مستقر، وأما جعله سبب حظوة في العلاقات العامة أو مادة لبيع الملذات أو ترويج الاقتصاد أو تعمد إبرازه للمجتمع للإفتان به من خلال لباس يظهر فتنة أو يعظمها فليس ذلك مما يخدم في تحقيق أي مزيد من القيم، بل إنّه يعكس طغيان الوجه المادي على تلك القيم، ويخدم في مزيد من هذا الطغيان. وفرض الحجاب الإسلامي على لباس المرأة في مظهرها العلني، إنما ليمنع طغيان الوجه المادي من شخصيتها متمثلاً بإغراء مفاتنها على قيمها الأخلاقية المتمثلة في موقفها الإنساني وكأم للمجتمع. إذ إنّ الإنسان تتغلب في طابع نظرته للآخرين الزاوية الأكثر بروزاً فيهم خلال تعامله معهم، فالمرأة التي تُصر على إظهار الناحية المتعلقة بالفتنة الجسدية من شخصيتها من خلال لباسها وسلوكها العام حيثما ظهرت في المجتمع ينتج عن إصرارها هذا غلبة وبروز هذه الصفة منها على شخصيتها وتصبح الزاوية الغالبة والعنوان الغالب على نظرة المجتمع لها (نظرة الرجل ونظرتها) لتضمحل أمامها في واقع العلاقات الزوايا الإنسانية الأخرى. ومن مظاهر هذا التغلب إن كان المعيار الأوّل الذي يفكر به عموم الرجال في اختيار الزوجة أو الخليلة هو مقدار الفتنة، فإذا كان توفر القدر الذي يرضي حواس الرجل فكر في ما عداه من مقوماتها، وأن يلعب دوراً في اختيارهنّ من قبل الرجال لبعض الأعمال التي لا يلزم إتقانه إلى جمال.

وهكذا فتشريع الحجاب في الإسلام يهدف فيما يهدف إلى منع طغيان الناحية المادية من شخصية المرأة المتمثلة بجسدها في نظرة المجتمع إليها على قيمتها الأخلاقية المتمثلة بموقفها الإنساني، وموقفه منها على أنها أم المجتمع تثبيت لنظرة المجتمع إليها من خلال هذه القيمة.

من هنا ندرك مدى البعد الأخلاقي في نظرة الإسلام إلى المرأة. فالمرأة في الإسلام هي أم المجتمع، ولذلك كانت نساء النبي أمّهات المؤمنين. وكذلك الرجل هو نفس المرأة ومنها (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا) (الأعراف/ 189)، ومن آياته (أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) (الروم/ 21)، وفي الآيتين الخطاب للجنسين وليس للرجل فقط كما هو واضح، والعلاقة الجنسية هي الزواج الذي هو المودة والرحمة. ثمّ إنّ المرأة مساوية للرجل بالمعنى والقيمة الإنسانية. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات/ 13)، فالتفاضل بينهما فقط بالتقوى.

وجعل، كما في السنة الشريفة تهذيب المرأة ورعايتها من أولى الواجبات الوالدية، وأعطاها حريتها الاقتصادية فتميز بذلك على كلِّ الأنظمة قديمها وحديثها وسبق إليه، فلا يطغى الرجل عليها بحجة الزواج، وساواها بالرجل في الحقوق والواجبات وما الاستثناءات القليلة بالآحاد إلا لضرورات واضحة من خلال طبيعة بنية المجتمع البشري، فالرجال قوامون على النساء ذلك يعني في نطاق الأسرة، فالأسرة بحاجة إلى رئيس والرجل هو الأولى عموماً بذلك ما دام المقدّم في حماية الأسرة والجماعة وهو المسؤول الأوّل اقتصادياً عن الأسرة ومع ذلك فالقوامة هذه قائمة على المودة، وميراث الرجل ضعف ميراث المرأة لأنّه هو العنصر الاقتصادي الأوّل، والمسؤول عن نفقة الأسرة والزواج، كما هو الشأن في كلِّ المجتمعات، مع تفاوت في المقدار واتفاق في الكيف، وأما زواج الرجل من أربعة والمرأة من واحد فهذا لا يطلب فيه مساواة، فالمرأة هي مستودع الحمل لا الرجل، وتعددُ الزوجات إنما هو ضرورة اجتماعية اقتصادية ليس إلا، وهي إن كانت في القانون غير مباحة في المجتمعات الغربية، إلا أنّها مطبقة في واقع الحال بعنوان آخر، عنوان المخادنة.

فالوضع الشائع أن يكون للرجل زوجة قانونية وعدة أخريات يعاشرهنّ معاشرة الزوجات وينفق عليهنّ، مع اختلاف في النتيجة، فتحرم بذلك بعضهنّ من وظيفة الأمومة لتقتصر وظيفتها على الجنس فقط، مع ما يترتب على ذلك من خلل في البنية النفسية للمرأة وفي العلاقات الاجتماعية.

وهكذا فإنّ الإسلام كان السباق إلى تحرير المرأة من عبودية الرجل والمجتمع، لينقلها دفعة واحدة من مرحلة التبع العالة والعار والموؤودة والسلعة والظعينة، إلى مرحلة الإنسان الرفيع المكان: الأُم، أمّهات الأسر وأمّهات المجتمع اللائي لا تدخل الجنةُ إلا بطاعتهنّ المقدسة كما تمليه العقيدة في الحديث الشريف "الجنة تحت أقدام الأُمّهات" فمن هذا المنطلق فرض الإسلام ترشعاته التي تهيىء المرأة لتقوم بهذه الوظيفة خير قيام من تهذيب وتوسيع للمدارك. وفي ذلك كلّه قوة المجتمع لأنّ المجتمع القوي الصالح إنما هو من إنتاج الأُمّهات القويات الصالحات، وجعل الحجاب الإسلامي على اللباس والسلوك حين ظهور المرأة للمجتمع لتظهر بالجدية والرزانة المتناسبتين مع مهمتها الخطيرة في تنشئة الأجيال، وصبغ المجتمع بصفتها هذه، ووقاية لها من أن تنحدر من مكانها الرفيع لتغدو كاللوحة الشهوانية أو الدمية الجنسية لا يرى الناظر فيها أوّل ما يرى غير ما يثيره فيه جسدها من أحاسيس جسدية، أو لتغدو وسيلةً تجارية أساسُها جسدُها الفتّان، لا خدماتها المترتبة على طاقاتها كإنسان، أي رقيقاً يباع جسده برضاه.

  نتائج أخرى:

إنّ الأخذ بأزياء اللباس القائم أساساً على الإثارة وتضخيمها، إنما هو مشكلة متصلة بظاهرة الإثارة العامة في المجتمع التي حرّمها الإسلام. فالإثارة العامة، على مستوى المجتمع لها آثار ضارة، والنشاط الجنسي أمر شخصي تماماً مرتبط بالميول التي تعتمد على حالات الفرد النفسية والجسدية والحياتية عموماً، فإذا عزلت عن المؤثرات الطارئة كالاستثارة المفروضة، اتخذت لديه دورتها العفوية، وفي إطار الزوجين تتأسس مع الزمن دورة فيها تلبية حاجاتهما وتكون سبباً في توثيق ارتباطهما العاطفي. أما إذا وقعت تحت تأثير عوامل خارجة عن العفوية المرتكزة إلى ما سبق، فإنها تولّد استثارة مفتعلة إذا كثُر تكرارها أخلّت في استقرار الحياة، إذ تستدعي مزيداً من الشبق في غير موقعه، وهذا يستدعي كبتاً أو تهافتاً، وإذا وقع أحد الزوجين وحده، أو كلاهما في مواقيت غير متناسقة في هذه الحالة ولّد لديهما استثارة غير متناغمة، فأخل في سياق العلاقة بينهما ومنع استقرارها. والأمر ذاته يحدث لغير المتزوج على درجة أكبر لعدم توفر الجنس له كلما احتاج، فيفقده استقراره النفسي. وعلى صعيد المجتمع يؤدي شيوع الكبت والجموح إلى الإخلال بالعلاقات الاجتماعية ويزعزع الأسرة ويؤدي إلى القلق وفقدان السلم النفسي لدى الفرد والجماعة، وهما يفعلان في الفرد والمجتمع في عكس الاتجاه العقلاني، فيغلب عندئذ على سلوك الجماعات صفة الطفرة والعنف، وبذلك يكون خطيراً على سياق الحياة في أي مجتمع وخاصة حين يكون المطلوب منه التصرف في مأزق أو خطر يتهدده، ولذلك فإنّ الحجاب الإسلامي إنما هو من ناحية أخرى وقاية للمجتمع من الوقوع في مثل هذه النتائج.

 

المرأة العاملة والحجاب:

وأخيراً، لابدّ من ذكر الاعتراض الشائع لدى أعداء الحجاب بأنّه يعيق أداء المرأة العاملة. إنّ التحديد المذكور آنفاً للحجاب الإسلامي يوضح بأنّه لا يشكل عائقاً هاماً في هذا السبيل غير أنّ الاعتراض هذا ليس بدافع من تحري الحقيقة، فمما لا ريب فيه أنّ المرأة التي تمارس العمل مهما كان عملها، لا يلزم لها لباس وتزيُّن يبرزان ما خفي من مفاتنها، تستلفت عيون الناظرين وتستثير لديهم الفضول، فذلك نوع من الدلال بل الاسفاف، لا مبرر لهما على أيّ حال، كما أنّه في المقابل نسأل: أليست سعة اللباس أرحم للجسد من الملابس التي تشد على الجسد حتى تكاد تتمزق؟!، والكعب الرفيع البالغ عشرة سنتيمترات في علوه أو أكثر أليس امتحاناً عسيراً؟! والفساتين الضيقة التي لا تكاد تسمح بنصف خطوة حين المشي أليست عائقاً؟! والسراويل التي شدّت على الجسد أليست عائقاً أيضاً؟! من الواضح أنّ في ذلك كلّه ما يعيق الحركة وراحة الجسم أكثر مما في الحجاب الإسلامي، فضلاً عن تنافيه مع قواعد الصحة، فلماذا قبلته معظم النساء؟ من الواضح أنّهنّ قبلنه لأنّ القصد في اللباس هو الموضة وليس ما هو الأفضل، ولو أنّ الموضة في باريس أو في لندن سنة ما درجت على ارتداء الفضفاض والطويل، وارتداء شيء على الرأس لفعلت نساء شرقنا ذلك، وتلك هي على العلل، علةُ التقليد.

فبافتقارنا للهيكلية الأيديولوجية والأخلاقية التي توجه بناءنا وكفاحنا ضد عبودية الغرب بعد أن أصبحنا نعاني من الفراغ لتخلينا عن تراثنا، أصبحنا أمماً مقلدة لا تبدع ولا تجيد التقليد لأنها لم تستوعب من حضارة الغرب المتفوق مادياً عليها سوى القشور الفاسدة الطافية على السطح، فقدرة الاستيعاب هذه مفقودة أصلاً لفقد القاعدة الفكرية بفقد التراث، هذه القاعدة التي منها تنطلق الأُمم المتحضرة عادة في النظر إلى ما لدى الآخرين.

  الخلاصة:

وفي الخلاصة، فإنّ الاختلاف الجذري في لباس المرأة بين المجتمع الغربي والمجتمع الذي يعكسه القرآن الكريم إنما هو نتيجة الاختلاف في بنية كلا المجتمعين في العقيدة والأخلاق. فالمجتمع الغربي تشكل القوة المادية البداية فيه والأساس والجوهر، وقد تعدلت فيه الأخلاق على ضوء ضروراتها مما جعلها المحرك الرئيسي لما نرى فيه من ظواهر، ولباس المرأة القائم على التعري وإظهار مفاتين الجسد، وموقفه من العري وجمال الجسد ولذة الحواس، وموقفه من الإنسان كوسيلة إنتاج، واستعماله جسد المرأة كمادة تجارية، كلّه يعكس ذلك الواقع في بنية المجتمع الغربي، ويعكس تغلب الناحية المادية على ناحية القيم فيه، وتحكّم ضرورات المادة بسلوك وتطلعات أفراده وجماعاته. أما المجتمع الإسلامي، فيبدأ في أساسه من قاعدة عقيدية خُلُقية، تقررت لتعكس وجه الإنسان الأصيل بينما تأتي القوة المادية وضروراتها نتيجة الحافز الأخلاقي وتناسق في خطه، ولباس المرأة القائم على أساس حجب المفاتن الجسدية، يعكسُ هذه العقيدة الأخلاقي التي تقلل من قيمة الجانب المادي للأشياء في وجه جانبها الخلقي، ولا تعطي للمادة من قيمة إلا بمقدار ما تخدم في تحقيق القيم الخلقية، وموقف الإسلام من المرأة على أنها أم المجتمع مع ما أعطى لهذا المقام من تقديس، إنما هو تثبيت لنظرة المجتمع إليها من خلال موقفها الإنساني وناحية القيم من شخصيتها، لتبقى قيمة جمال الجسد بمقدار ما تحقق فيه المرأة من القيم بتحقيق أمومة أنجح، وأسرة أقوى وأفضل. فالحجاب هكذا ليحفظها في مكانها الرفيع هذا، فلا يغلبُ على نظرة المجتمع إليها الجزءُ المادي وهو الجسد الذي ليس فيه خيار وتنافس بقاء، بل تكون أساساً من خلال ناحية القيم من شخصيتها، ومن خلال موقفها الإنساني المذكور ومواقفها الأخرى المتمثلة في كلِّ ما تقدمه من خدمات بطاقاتها البناءة لتحقيق مزيد من أصالة الإنسان.

 

المصدر: مجلة نور الإسلام/ العددان 29 و30 لسنة 1992م

ارسال التعليق

Top