• ٢٧ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٨ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الحقائق دعائم العقل

د. هاني عبدالرحمن مكروم

الحقائق دعائم العقل

◄الحقائق من خلق وتدبير العليم الخبير وتنتسب لاسمه ـ الحقّ، جل شأنه ـ وهي أساسات الفكر السليم وهيكل العقل القويم. ويستحيل أن تتعارض الحقائق، لأنّها من مصدر واحد هو خالق هذا الكون البديع المنسق في خشوع وإحكام وجلال. من الممكن أن تتعارض بعض مكونات الواقع، لأنّها تشتمل على الحقّ وعلى الباطل، أما الحقيقة فحق محض ولا تتعارض أجزاء الحقّ، وحين يبرز أي تعارض ـ بين الأشياء ـ فيكون ذلك بسبب ظلام الجهل وتسلل الباطل وسوء الفهم. والحقيقة يصعب صياغتها بلغاتنا ورموزنا، فلغاتنا بجانب لغات الحقيقة تشبه إشارات الأخرس.

ويخطئ البعض فيتصوّر أنّ الواقع بسيئاته وباطله هو الحقيقة! لكن الواقع هو أساساً حقيقة سامية لوثها الباطل، وبالتفكر والتمييز يتضح الأمر. والفكر الذي يُبنى على غير الحقائق هو وهم ولا محالة زائل، لأنّه باطل وسقيم. وأساس قبح وحقارة الكذب أنّه ضد الحقيقة، وبوجهه الصفيق يحاول اعتراض طريق النور، ولا يحدث ذلك إلّا بسبب قصور ـ أو حالة مرضية ـ في العقل. فالحقيقة هي ضالة العقل السوي، وفي كنفها تأنس وتسعد النفوس المطمئنة.

إدراك الحقائق:

والحقائق أرسخ من الجبال، لكن إحساس الإنسان بالحقائق أو مدى إدراكه لها وتمسكه بها يتأثر كثيراً بضعف أو قوة بصيرته ومدى دقة إحساسه. فالأعمى لا يشعر بالحقائق التي يمثلها النور مهما وُصفت له، كما أنّ ضعيف السمع لا يميز شدة الصوت ولا يستجيب للإشارات الصوتية الضعيفة. والسرعة في شعور الشخص المتحرك غيرها في حس الإنسان الساكن، ونتيجة لذلك تأتي الاستجابة لتلك الإشارات غير المتناسبة مع حقيقتها، وهذا نوع من الخطأ غير المقصود لكنه يحدث وتترتب عليه نتائج سلبية. فمن لم يتعامل مع النار كيف يشعر بمدى خطورتها! إنّ مدى إدراكه لها يتناسب مع ما وصله عنها من وصف أو ما شاهد عن بُعد. وليس انطباع مَن رأى النار كمن اكتوى بها. كلّ هذه الانطباعات عن النار، رغم أنّ حقيقتها وشجرتها واحدة، لكن إدراكها أو الإحساس بها وبالتالي التصرف تجاهها يختلف من شخص لآخر.

الحقائق كمعظم الأشياء لها شقّ مادّي وصفي وهو الأدنى والأفنى، والآخر خفي معنوي وهو الأعلى والأبقى. الشقّ المادّي من الحقيقة يُدرك بالحواس وبالتشريح، والشقّ المعنوي من الحقيقة يدرك بالتفكير وجمع المعلومات ووزنها وتحليلها والتفكير فيما وراءها. وبكلا الشقين تكون الحقيقة في البداية غير واضحة ولكن بعد بذل الجهد العقلي ـ في كليهما ـ يأتي هدى الله وفضله فينجل من الحقيقة ما ينجلي. وذلك معنى التبيين أو التوضيح، فلو كانت الحقائق واضحة منذ البداية ما احتاجت إلى بيان أو توضيح.

الحقيقة تبدو مغلّفة بطبقات لا نهائية من المعلومات، وكلما عرفنا معلومة يتضح أنّ خلفها معلومات في سلسلة لا نعرف لها نهاية. والجهل بهذه المعلومات يمثل حُجُباً تُخفي أنوار الحقيقة. وحين يقال إنّ (العلم نور) فالأساس هو نور الحقيقة الذي يتجلى بالعلم ويحجب بالجهل. والحقيقة المطلقة الكبرى في الكون هي الله ومنه يستمد النور كلّه: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) (النور/ 35) وذلك النور العقلي يختلف عن الضوء المألوف، فنور العقل يُحجَب بسبب تبلد الحس الناتج عن شدة التعلق بالمادّة والتدهور الأخلاقي الذي يسبب ثخانة المخ وتغليظ أقفال العقل المادّي. فالحس البليد يحتاج لصفع المادّة كي يفيق ـ ثم لا يلبث أن يغط في سبات عميق ـ وتلك خاصية حيوانية، حيث أنّ الضرب هو إحدى وسائل تطويع الحيوان. أما القيم الأخلاقية فتنمي الإحساس بالمعاني وترقيق العقل وشفافية النفس.

وحين نذكر لفظ الحقيقة أو الحقائق فنقصد ما يتيسر لنا إدراكه منها، فالإدراك الكامل للحقائق مستحيل، لأنّه متصل بأصولها الكبرى والبعيدة والتي تتصل في عالم الغيب بالخالق جلّ وعلا. وهذه ليست دعوة لليأس لكنّها لبنة ضرورية في علم الحقائق تضع الإنسان قرب حجمه الحقيقي، حتى يتمكن من تصور ترتيب شبه صحيح للأمور والحقائق، ويتقدم هذا الترتيب مع تراكم العلوم الصحيحة.

فبالسعي للمعلومات الموثوقة نلمس أطراف الحقائق ونتحرك خطوة خطوة على أفرعها فنجد أنّها تتلاقى في الأصول المرحلية المتصلة بأصول أعمق. وقد جرت العادة على تسمية الحقائق التي تبلورت بالعلم (التجريبي) بالحقائق العلمية وتلك تسمية مجازية تمييزاً لها عن الحقائق الفعلية التي لم يتوصل العلم البشري إلى قول محدد بشأن ماهيتها، كالروح والجن والسماوات السبع مثلاً.

ويمكن تصوّر أنّ إدراكنا الإيجابي لنور الحقيقة يتناسب طردياً مع معلوماتنا الصحيحة والمتكاملة عنها، وإدراكنا السلبي يتناسب مع معلوماتنا الخاطئة عنها، والجهل (السطحي) يقع فيما بين الحالتين. وربما يجوز تمثيل ذلك كما في الشكل. وعلى هذا الشكل يمكن تصوّر سهولة تعليم الجاهل السطحي بموضوع معين. وواضح أنّ معدل الإدراك يكون بطيئاً في البداية ـ قرب نقطة الصفر ـ ثم تتساند المعلومات لتنشيط العقل ودعم الإدراك بعد ذلك.

أما حالة الفرد المشبع بمعلومات خاطئة ـ حول موضوع ما ـ أي حالة الجهل العميق فتحتاج أوّلاً لكشف مدى زيف تلك المعلومات (الجهالات) وإزالة آثارها قبل البدء في تقديم المعلومات الصحيحة التي ترتكز على الحقائق، ويمكن تمثيل ذلك بالتحرك على المنحني من أسفل إلى أعلى. ومعالجة مثل هذه الحالة أصعب من معالجة حالة الجهل السطحي (الأمية). وجدير بالذكر أنّ عكس ذلك ممكن، وهو ما يسمى ـ معكوساً في الغالب ـ (بعملية غسل المخ)، أي طرد ما به من معلومات صحيحة ليحل محلها أو يسكن إلى جوارها) معلومات خاطئة مغرضة، أو العكس أحياناً. وذلك يحتاج لتحايلات للتشكيك في المعلومات الصحيحة بخلطها بالشوائب ثم تزيين المعلومات الخاطئة بخلطها بكسور الحقائق وأنصاف المعلومات.

عدد الحقائق الفرعية ـ في الوجود ـ يفوق الحصر وكيفية تداخلاتها وعلاقاتها شديدة التنوع، والإدراك المطلق للحقائق يحتاج لقدر هائل من العلم وذلك غير متيسر للإنسان، لأنّه محدود العلم وتلك حقيقة لا تحتاج إلى تأكيد ويسلم بها الكلّ حتى الملاحدة ورواد العلوم الوصفية حين يشعرون بعجزهم، أما المؤمن فيسلم بها ويبني عليها (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا) (الإسراء/ 85).

إذن فإدراك الناس ـ عموماً ـ للحقائق يكون جزئياً من حيث الكم ونسبياً من حيث الكيف.

الوهم:

الوهم ابن الباطل ويقابل الحقيقة إلّا أنّه لا يدل على شيء ذي حقيقة، فالوهم شيء فارغ، أو فراغ معلق في لا شيء، ولا يوصل إلّا للضياع، بل إنّ الوهم ذاته ـ إن كان له ذات ـ لا يمكن أن يبني عليه إلّا الخرافات وحزم الأكاذيب، فبئس البناء والباني والمبني عليه. لذلك لا يمكن للوهم أن يستقر أو تتميز له معالم، إنّه هلامي الشكل سرابي المادة أخطبوطي الحركات، يتبخر حين يواجه قوة ونور الحقيقة. وعندئذ يشعر صاحب الوهم أنّ شيئاً جزءاً من كيانه (عقله) يتحطم أو ينسحب أو يتبخر، ويشعر وكأنه يولد من جديد في عالم مختلف يحتاج لحسابات جديدة ولمسار جديد. فالعقل السوي عدو الوهم والخرافة والأسطورة وما شابه ذلك من الأكاذيب.

العقل الفطري يرفض الوهم والباطل، وحين يتلقاهما في الصغر ينشأ في حالة ريب وخوف وجبن يتردد فيها، ويتقلب من شك إلى حيرة إلى قلق، ويمكن أن يُرى ذلك في وجهه مهما حاول الإخفاء، أو تعاطى من المغيبات، لا تطمئن نفسه أبداً حتى يَمن الله عليه بالهداية، فيلفظ الأوهام والأباطيل.

للوهم تأثير تخديري يجعل مَن يعيش فيه غافلاً عن الحقائق، لا يشعر بها إلّا حين تصدمه الوقائع.

الوهم كنتاج للجهل وصناعة الإفك يساعد على تنمية مناخ التخلف والشر، بعضهم من بعض. والوهم المحض يكون في الفكر فقط وليس في الواقع ـ لأنّ الوهم لا حقيقة له ولا واقع ـ ومقره في العقل الفارغ والمريض والتافه، أما الواقع الذي يعيشه أغلب الناس فخليط من الحقائق والأباطيل.

وجدير بالذكر أنّ الخيال يختلف عن الوهم، ولا يقترب من الوهم إلّا الخيال المريض، لاشتراكهما في الأكاذيب والمعلومات والتصورات الخاطئة. أما الخيال الرشيد فيتعامل مع الحقائق والوقائع ويبحث عن الغائب منها ويحاول أن يتلمس العلاقات الصحيحة بين الأشياء ومسبباتها ومسببات مسبباتها، ويستنتج ويراجع استنتاجاته فيصل بسعادة غامرة إلى الله ـ أصل كلّ الحقائق سبحانه وتعالى. والخيال مطلوب للإبداع وتوليد الفكر والمعاني السامية التي تدور حول الحقائق.

صحّة العلم بالحقيقة:

الصحّة عكس المرض، ولفظ (صحيح) يقابل لفظ مريض أو كسير، و (كامل) يقابل (ناقص). وتطبيق مثل هذه المفاهيم على المعلومة وعلاقتها بالحقيقة يفتح أبواباً للتأمل، فمعلوماتنا عن حقيقة الشيء ـ إن صحّت ـ فهي جزئية وبالتالي فنحن ندرك كسوراً من الحقائق. إذن علمنا بالحقيقة غير مكتمل الصحّة، وهذا لا يقلل من قيمة ما نعلم بل يدعونا للسعي وطلب المزيد من الصحّة بشوق وتواضع وخشوع. ومن أمثلة فتات العلم أو أجزاء المعلومات ما يسمى بالواقع التجريبي أو الوقائع التي نتوصل إليها بالتفكير والملاحظة، مثل:

ـ لا يمكن أن يحيا الإنسان بدون ماء.

ـ الماء يمثل ما يقرب من ثلثي وزن الإنسان الحي.

ـ بدون الماء يجف النبات ويموت.

ـ لا يمكن أن تعيش الأسماك بدون الماء.

ـ الماء نسبته كذا في جسم الطيور.

كلّ من هذه المعلومات الجزئية وأمثالها تمثل واقعاً تجريبياً علمياً ملموساً وأحياناً مقاساً، والتوصل إليه وتحصيله هو وأمثاله يحتاج لوقت وجهد ـ وهو فريضة ـ وفي نفس الوقت فهذه المعلومات العديدة (الفتات) أو جزئيات الحقيقة وأنصاف المعلومات يشملها جميعاً (يربطها ببعضها) الحقيقة النورانية المتكاملة التي تدوي بين الأرض والسماء ـ منذ القدم ـ شاهدة بصدق ودقة التبليغ، وملوحة بعظمة الإرادة المطلقة التي هي أم الأسباب ومصدر الحقائق: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) (الأنبياء/ 30). آية منزلة من مصدر النور، بدون الحاجة إلى تجارب أو أبحاث أو مختبرات أو تحليلات... إلخ. تلك معلومة شاملة المعاني كاملة الصحّة تلخص حقيقة كونية أساسية، وعلى العاقل أن يبني عليها أوثق البنيان. أما حين تكون معلوماتنا عن الشيء مغلوطة أو منفوخة أو مبتورة ـ وما أكثر ذلك ـ فيجب الحذر كلّ الحذر.

ترتيب الحقائق:

الحقائق في هذه الدنيا عديدة، بل تفوق الحصر، لكنها أبداً لا تتناقض بل هي دوماً تتكامل وتتناغم وتتلاقى في اتّجاه الحقيقة المركزية الكبرى، وحين يبدو أدنى تناقض بين بعض أجزاء حقيقة ما فيجب أن نتوقف لنبحث عن الخطأ في فهمنا نحن لنصححه، لأنّ أجزاء الحقيقة لا يمكن أن تتناقض. نعم، الحقيقة تتشعب أبعادها، وأوجهها تتعدد وتتقابل، لكن أجزاءها لا تتناقض. على هذا الأساس يمكن أن نصحح أفكارنا بتخليصها من المتناقضات وهذا دور العقل، لأنّ أجزاء الفكرة السليمة لا تتناقض.

والإدراك المطلق (لشجرة الحقائق) لا يعلمه إلّا الله، أما الإنسان فيدرك من الحقائق ما يتناسب مع علمه واستعداد عقله.

ما قيمة وحال العقل الذي ينكر الحقيقة الكبرى!! كيف يستقيم فكره إن لم يستقر على الحقائق الراسخات! وهذا الصنف من العقول البائسة تجد له أتباعاً وأشباه أتباع بالملايين (نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ) (الحشر/ 19). تجد كثيراً من الناس يُرزقون ولا يخطر ببالهم أن يشكروا مَن رزق، فمن سيشكرون بعد ذلك؟! يذنبون ولا يشعرون بالحياء ممن أمهلهم وهو قادر عليهم، فممن سيستحون إذن! وأي خير يرجى من ورائهم. وما أروع قول خاتم المرسلين (ص) في الحديث الذي رواه مسلم وغيره، عن أبي هريرة (رض): (... والحياء شعبة من شعب الإيمان). والمصيبة الكبرى هي الجهل العميق بالحقيقة الكبرى، وتتوالى وتتنوع بعد ذلك الجهالات بكبريات الحقائق.

ومن الناس مَن يسلمون بوجود الله، لكن ما قدروا الله حقّ قدره، وتصوّروه في صور ومنازل ومواقف لا تليق بقدره ـ عزّوجلّ ـ . وفي ذلك يوجد خلل ربما جاز أن نسميه (إدراك جزء الحقيقة) والغفلة عن معظمها، أو قل الجهل النسبي بها. وعلمياً لا يمكن تشييد بناء بالفتات، لابدّ من ربط الحبيبات ببعضها لتكون كتلة متماسكة يشد بعضها بعضاً، والكتلة الكبيرة يصعب أن تستقر أو تستريح على الكتلة الصغيرة، لكن العكس هو الصحيح. فالحقائق الكبرى أصول عريقة والحقائق الصغرى فروع حديثة، وصحّة الفروع رهن بصحّة الأصول. وأصول الحقائق موجودة منذ الأزل، ولكننا نعجز عن إدراك معظمها، بسبب شدة عظمتها وقلة علمنا، وما يستجد من الحقائق هو أطرافها كأوراق الشجر وأزهارها وأشواكها التي تتنوع وتنمو ثم تتساقط وتتجدد لكن الأُسس تبقى.

الموت حقّ وحقيقة ثقيلة لا ينكرها عاقل، وأسبابه كامنة فينا وحولنا، وما وراء هذه الحقيقة أثقل منها، وكلّ أهل الدنيا لا يملكون إزاءها حيلة ولا وسيلة، ولكن كم نسبة البشر الذين يقدّرون هذه الحقيقة حقّ قدرها ويستعدون لها؟

إنكار الحقائق يمكن أن يحدث بسبب خلل في العقل، خلل علمي (معنوي) وليس عضوياً، والجهل يمكن تصنيفه تحت هذا النوع من الخلل. فالعاقل لا يقبل ولا يرفض إلّا عن علم أو ببينة، أما الرفض الجاهز لكلّ ما هو مجهول، والرفض الموروث، وما شابه ذلك فيعتبر خللاً أو قصوراً عقلياً (أو فكرياً) لا يستند إلى علم أو فهم، وماذا بعد العلم غير الجهل! والخلل الفكري دليل على الضعف النفسي المتمثل في شدة الخوف من المجهول ورفضه خوفاً مما وراءه. حدث ذلك مع كلّ رسالات السماء من عهد نوح إلى عهد محمّد (ص) الحقائق الناصعة البياض قوبلت بالرفض والرفض العنيف، رفض عن جهل وراثي عميق لا عن علم سليم، بل إصرار على ما هم فيه من ضلالات ومفتريات لا برهان عليها، فهل يصح أن نعتبر هذه العقول سليمة حتى ولو اخترعت ما اخترعت!

في محاولتنا لتصوّر ترتيب جيِّد للحقائق وما يُشكل العقل، نقر بأنّ ترتيبنا عرضة للخطأ ولذلك سنحاول الإيجاز، لتقليل فرصة الخطأ، وبقدر صدق التجائنا للعليم الخبير نرجو أن يعيننا على تفادي الخطأ. وفيما يلي نذكر اجتهادنا في هذا الترتيب ـ بتقسيم عريض ـ كالتالي:

1 ـ حقائق ذكرت في نصوص منسوبة لعلّام الغيوب ومحفوظة بلا أدنى تحريف أو إعادة ترتيب أو أخطاء ترجمة أو ضعف ذاكرة أو تأويل أو خلط بهوى. أمثال هذه الحقائق هي كلّ ما تضمنه كتاب الله ومنها: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (الرعد/ 16)، (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) (الأخلاص/ 1)، (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) (آل عمران/  185)، (مُحمَّدٌ رَّسُول اللهِ) (الفتح/ 29) ، (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (الزلزلة/ 7-8)

2 ـ معلومات نسبت للرسل والأنبياء ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ بروايات متباينة الدقة والاتفاق والترتيب ومتانة السند، نأخذ منها ما نطمئن لصحّته وحسنه بما لا يتعارض مع الآيات الكريمات.

3 ـ معلومات هدى الله إليها بعض مَن كرس وقته للبحث العلمي والتدقيق، وهي خليط أكثره صواب ونافع وقليله غير ذلك.

4 ـ مخاليط من فتات علوم وركام وخرافات وأوهام وأكاذيب وافتراءات وأحقاد وأهواء وتعصبات وتلفيقات وكناسات.

وفي ترتيب الحقائق نجد صعوبة تتمثل في غياب المقياس المتفق عليه بين العقول المتنوعة. فقد نلم بفتات حقيقة ما ـ أنت وأنا ـ ولكن إدراك كلّ منا لتلك الحقيقة يختلف حسب كم ونوع الفتات ومعانيه عند كلّ منا، لذلك تختلف صورتها وبالتالي أهميتها عندي وعندك. وهذا أحد أسباب الاختلاف الذي يصل أقصى مداه حينما يكون أحدنا مُدركاً لتلك الحقيقة والآخر يجهلها (الأمي) أو يتصوّر عكسها، أو مُلقن بضدها (الجهل العميق). وهنا يمكن أن نفسّر تقارب أفكار مَن خضعوا معاً لبرامج تلقين موحدة لفترات طويلة، حيث تزيد مساحة الاتّفاق بينهم، وفي المقابل نجد تباين هؤلاء مع أولئك الذين تلقّوا برامج تلقين مغايرة. غالباً ما يصعب التوفيق بين هؤلاء وأولئك، لأنّ كلاً منهما ركّز على جوانب ورموز يجهلها الآخر ويرفضها، وأصبح كلّ فريق متمسكاً برؤيته التي تشكلت ببرامج التلقين ـ دون أن يشعر. كلّ فريق يعظم الأُسس التي زُينت له في برامج التلقين وقد شغلت حيزاً في ذاكرته وأحدثت آثاراً يصعب محوها إلّا بهزة عنيفة. وكما يقول ربّنا عزّوجلّ: (كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (المؤمنون/ 53).

وبرامج التلقين تعطي على هيئة حزم من المعلومات يحاول مَن رتّبها أن يُكون من كلّ حزمة خلاصة معينة لا يشترط أن تعبر عن حقيقة صادقة. ومن مجموعة الحزم يمكن تكوين صورة أشمل للتعبير عن توجّه أوسع بغض النظر عن الحقيقة، وهذا أسلوب تركيبي معروف عند مخططي ومحترفي تشكيل العقول. وقلما يهتم الناس بالحقائق الخالصة، إنما تهتم الغالبية العظمى بالفتات وأشباه الحقائق التي تؤيد فكرها ووجهة نظرها وظاهر مصالحها العاجلة، وتنفر من الحقائق التي تناقض توجهاتها وما سبق أن ترسب وترسخ في عقولها. فما يتفق مع الهوى يتم الترحيب الاحتفال به، أما ما يتعارض معه فيحاول الناس مقاومته والتفنن في مراوغته، فأين موقع الحقيقة من هذا الحال؟!.►

 

المصدر: كتاب العقل.. تنظيمه وإدارته

ارسال التعليق

Top