• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الحياة في محراب الصلاة

الحياة في محراب الصلاة
◄إقامة الصلاة، والتوجه إلى القبلة وتسوية الصفوف: إقامة الصلاة بمثابة تنبيه إلى الشروع في بدء الصلاة، بما يدعو المصلي إلى أن يستجمع شتات فكره، وأن يتهيأ للوقوف بين يدي الله. مركزاً انتباهه وتفكيره في الصلاة، ويقف في الصف متوجهاً إلى القبلة ويستوي مع اخوانه المصلين متلاحمين في صفوف مستقيمة. ومما يساعد على توفر الجو المناسب للصلاة في اطمئنان تلافي أي مطالب للجسد قد تشغل المصلي كحضور طعام أو مدافعة للأخبثين أو غير ذلك. فعن عائشة قالت: سمعت رسول الله (ص) يقول: "لا يصلي بحضرة الطعام ولا وهو يدافعه الاخبثان" رواه مسلم وأبو داود – الأخبثان: البول والغائط – كذلك التخلص مما يشغل السمع والبصر. وحول تخلية الفكر من مشاغل الدنيا علق بعضهم على تفسير قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) (النساء/ 43)، فقال كم من الناس كأنهم سكارى من ثقل ما يشغلهم من هموم ولم يشربوا خمرا، مما قد يجعلهم لا يعلمون ما يقولون في الصلاة. أما عن التوجه إلى القبلة فيقول الله تعالى: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) (البقرة/ 144). ومن المعاني التي نريد لها أن تحيا في قلب المصلي عندما يتوجه إلى القبلة. أن يعلم أن توجه القلب إلى الله بهذه الصلاة هو الأصل وعليه مدار الأمر لأنّ القلب هو موضع نظر الله في الصلاة. فلتكن النية خالصة لله لا يشوبها شائبة من رياء وغيره. وثمة معنى آخر وهو أن يعلم المصلي أنّ المسلمين في جميع أنحاء الأرض يتجهون معه إلى نفس القبلة وهي بيت الله الحرام، وما يعني ذلك من الوحدة التي يجب أن تجمع المسلمين وتوحد أهدافهم وجهودهم ضد كيد الأعداء. وليحرص المصلي على التبكير ليحظى بمكان في الصف الأوّل وكي لا تفوته تكبيرة الإحرام مع الإمام. وقد سبق أن ذكرنا حديث الرسول (ص) "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأوّل ثمّ لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا". وعن أبي هريرة (رض) قال: قال رسول الله (ص): "خير صفوف الرجال أوّلها وشرها آخرها وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها" رواه مسلم. وليحرص المصلي على استوائه مع اخوانه المصلين في الصف فإنّ الله لا ينظر إلى الصف الأعوج. فعن أنس (رض) قال: قال رسول الله (ص): "سووا صفوفكم فإنّ تسوية الصفوف من تمام الصلاة" متفق عليه. وفي رواية البخاري: فإنّ تسوية الصفوف من إقامة الصلاة". وفي تسوية الصفوف معانٍ يجب أن يحياها المصلي، فهي تؤكد أنّ الإسلام يدعو إلى النظام والاستقامة وعدم الفوضى أو الاعوجاج، ونخرج من ذلك إلى الشعور بضرورة انتظام المسلمين جميعاً في جماعة واحدة وتحت إمرة أمير أو خليفة واحد، وأن يوحدوا جهودهم لمواجهة الأعداء فالله تعالى يقول: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) (الصف/ 4). كما يستفاد من عدم ترك فرجات بين المصلين إلى معنى التلاحم والأخوة والترابط وعدم السماح للشيطان أن ينزغ بينهم، ولا للأعداء أن ينفذوا من أي ثغرة إلى صفوف المسلمين. كذلك يستفاد من انتظام المصلين في الصفوف كأسنان المشط دون تفاوت بين غني وفقير أو وزير وخفير معنى المساواة والتواضع وعدم التعالي أو الكبر وأنّ التفاضل بالتقوى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات/ 13). بل أقول قد يصادف أن يسجد الوزير بوجهه في مكان قريب من قدمي الخفير الذي يصلي في الصف الذي أمامه دون حرج أو اشمئزاز، وفي ذلك تربية للنفس وخاصة خلق التواضع. وليستشعر المصلي هيبة الوقوف بين يدي الله، وحقيقة الانتقال بعد قليل بتكبيرة الإحرام من حياة عادية إلى حياة خاصة لها متطلباتها والتزاماتها. واللائق بالمصلي أن يقف بين يدي الله مطاطىء الرأس تواضعاً لله، وفي ذلك تنبيه للقلب بالتواضع والتذلل لله، ويستحب أن يكون النظر إلى موضع السجود فذلك أدعى للخشوع. والأصل الوقوف في صلاة الفرائض إلا أن يكون هناك عذر بمرض أو نحوه. ولا يجوز أن يتخلل الوقوف أي مظهر غير لائق كالتلفت أو وضع اليد على الخاصرة أو الضحك أو كثرة تحريك الأيدي أو رفع البصر إلى السماء. وقد ورد نهي عن مثل هذه الأمور: فعن أنس بن مالك (رض) قال: قال رسول الله (ص): "ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة. فاشتد قوله في ذلك حتى قال لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم" رواه البخاري. وعن يزيد بن هارون عن هشام عن محمد عن أبي هريرة (رض) قال: نهي عن الاختصار في الصلاة. قال قلنا لهشام ما الاختصار قال: يضع يده على خصره وهو يصلي. متفق عليه. وضمن حديث لرسول الله (ص) عن جابر بن سمرة "اسكنوا في الصلاة" في رواية لمسلم. واحتراماً لموقف الصلاة نهى رسول الله (ص) عن المرور بين يدي المصلي كما رغب في اتخاذ السترة أمام المصلي. فعن بسر بن سعيد قال: أرسلني أبو جهيم ابن أخت أبي بن كعب إلى زيد بن خالد الجهني (رض) أسأله ما سمع في المار بين يدي المصلي؟ قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: "لأن يقوم أربعين لا أدري من يوم أو شهر أو سنة خير له من أن يمر بين يديه". متفق عليه. وعن أبي هريرة (رض) قال: قال أبو القاسم (ص)، "إذا صلّى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئاً فإن لم يجد فلينصب عصا فإن لم يكن معه عصا فليخط خطا، ولا يضر من مر بين يديه" رواه أبو داود وابن ماجة وابن حبان وصححه. ومما يساعد على الخشوع والاهتمام في حسن أداء الصلاة أن يقبل المصلي على صلاته وكأنها آخر صلاة له في هذه الدنيا، حيث لا يضمن أحد أن يمتد عمره إلى الصلاة التي تليها، فيدفعه ذلك إلى حسن أدائها لتكون آخر عهده بالدنيا.   حول النية وتكبيرة الإحرام: النية محلها القلب ويقصد بها الامتثال لأمر الله بما تعبد به عباده من فرائض كما هي دون تبديل أو تحريف، فنصلي كما كان رسول الله (ص) يصلِّي، ويلزم أن تكون النية خالصة لله لا تشوبها شائبة. فالأعمال بالنيات، وأن يستحضر المصلي في ذهنه الفريضة التي ينوي صلاتها أو النافلة وليس بالضرورة التلفظ بها. أما تكبيرة الإحرام مع رفع اليدين فهذا يعني الدخول في الصلاة وامتناع المصلي عن أعمال لا يحل له عملها أثناء الصلاة. والتكبير هنا أنسب شيء للتنبيه إلى ضرورة انشغال القلب بالله لا بغيره. ورفع اليدين عند تكبيرة الإحرام، احتراماً لمقام الله وكأنّ المصلي يطرح الدنيا بمشاغلها ومشاكلها وراء ظهره ليعيش هذه الرحلة الربانية وكأن روحه تعرج إلى الله متخلصة من جوانب الأرض ومطالب الجسد.   حول دعاء الاستفتاح والاستعاذة بالله من الشيطان: وقد سن لنا رسول الله (ص) أدعية استفتاح بعد تكبيرة الإحرام نستهل بها هذه الوقفة الكريمة بين يدي الله تعالى نذكر بعضا منها: (سبحانك اللّهمّ وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك) رواه الترمذي والبيهقي عن أبي سعيد الخدري وكذا، (اللّهمّ باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللّهمّ نقني من خطاياي كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس، اللّهمّ اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد) متفق عليه من حديث أبي هريرة (رض). وكذا (وجهت وجهي للذي فطَّر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين. انّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين) رواه مسلم وأحمد بتتمة زيادة على هذا الحديث من حديث عليّ بن أبي طالب (ع). معاني هذه الأدعية مناسبة لمقام الوقوف بين يدي الله، فالتسبيح والحمد والتمجيد، وطلب الطهر والنقاء والبعد عن الخطايا وغسلها بأنقى أنواع الماء، وتوجه الوجه إلى الله والمقصود هو القلب والإقرار بأنّ الصلاة والنسك والحياة والموت كلّ ذلك لله وإلى الله. انّ المصلِّي حينما يعيش هذه المعاني بكلّ وجدانه ومشاعره ستسمو روحه وتزكو نفسه ليكون ربانياً يعيش رحلة الصلاة بجوها الرباني المناسب ويخرج منها بزاد روحي يسمو به عن الدنايا والفحشاء والمنكر. ثمّ الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم وضعها مناسب قبل بدء قراءة القرآن المتمثل بفاتحة الكتاب ثمّ ما يتيسر من القرآن بعدها. فالله تعالى يقول: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) (النحل/ 98)، فالقرآن كله نور وهداية إلى الصراط المستقيم والشيطان لا يريد للإنسان هذه الهداية فيسعى لصرف الإنسان عما في القرآن من نور وموعظة وهدى، لذلك يلزم الاستعاذة بالله منه عند قراءة القرآن. وعلى المصلي أن يجعل من هذه الاستعاذة أداة تنبيه أو عاملاً مساعداً لصرف أي خواطر يوسوس بها الشيطان حتى يفرغ القلب والذهن للصلاة وما يتلى فيها.   قراءة فاتحة الكتاب: عن أبي هريرة (رض) قال: قال رسول الله (ص): "من صلّى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن – وفي رواية – بفاتحة الكتاب فهي خداج هي خداج غير تمام" رواه أحمد والشيخان. خداج أي ناقصة نقص بطلان وفساد. وعن عبادة بن الصامت (رض) أنّ النبي (ص) قال: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" رواه الجماعة. في الصلاة نقرأ الفاتحة في كل ركعة دون ملل من تكرارها، بل نشعر أنها أنسب ما نقرؤه في وقفتنا بين يدي الله مصلين، ونشعر بشدة حاجتنا لإقرار ما فيها من معاني الحمد والتمجيد لله وتخصيصه بالعبادة وحاجتنا الماسة لعونه وهدايته لنا إلى الصراط المستقيم، في وقت تدور فيه معركة بيننا وبين إبليس يحاول فيها أن يغوينا ويحرفنا عن الصراط المستقيم. ومن المناسب أن نتعرض إلى الحدث حول جمال وروعة هذه السورة ومعاني آياتها لكي تحيا هذه المعاني في قلوبنا كلما صلينا وقرأنا فاتحة الكتاب. هذه السورة فيها من كليات العقيدة الإسلامية وكليات التصور الإسلامي وكليات المشاعر والتوجيهات ما يشير إلى طرف من حكمة اختيارها للتكرار في كل ركعة. "بسم الله" بدء طبيعي فهو الأوّل والآخر والظاهر والباطن فباسمه يكون كل ابتداء. وذكر صفتي "الرحمن الرحيم" يعني استغراق هاتين الصفتين مجتمعتين لكلّ معاني الرحمة وحالاتها ومجالاتها. وكلمة "الحمد" هي الكلمة الجامعة بين الشكر والثناء. والحمد هو الشعور الذي يفيض به قلب المؤمن بمجرد ذكره لله. فوجود الإنسان نعمة إلهية تستوجب الحمد، ثمّ انّه في كل لحظة وفي كل خطوة تتوالى آلاء الله وتغمر خلائقه وبخاصة الإنسان. فكان الحمد ابتداءً وختاماً (وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأولَى وَالآخِرَةِ) (القصص/ 70). فالحمد هو خير ما يفاتح به في هذا الموقف الشريف والمقام المحمود. ومع ذلك فإنّ لنا بحمد الله صدقة وذلك فضل من الله وكرم. وفي ذكر "رب العالمين" تقرير أنّ الرب الذي يُحمد ليس ربّ أسرة أو قبيله إنما هو رب العالمين جميعاً. وفي هذا إعلان لوحدتين هما الدعامتان اللتان يقوم عليهما الأمن والسلام وعليهما قام الإسلام في كل زمان ومكان وهما وحدة الربوبية ووحدة البشرية، فهي من نسل أب واحد وأم واحدة، فالإنسان أخو الإنسان من جهتين الربّ واحد والأب واحد. وخاصة أنّ هناك مشركين يعترفون بوجود الله ولكنهم يعتقدون بتعدد الأرباب "وما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى" وهناك من اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله. "الرحمن الرحيم" هذه الصفة التي تستغرق كل معاني الرحمة وحالاتها ومجالاتها تتكرر في آية مستقلة لتؤكد قوائم الصلة بين الرب ومربوبيه. بين الخالق ومخلوقاته. صلة الرحمة والرعاية التي تستجيش الحمد والثناء، فالحمد هو الاستجابة الفطرية للرحمة الندية. وذكر هذه الصفة لائق بهذا الموقف الذي يقفه العبد عابداً خاشعاً داعياً مبتهلاً، محتاجاً فقيراً، تائباً آيبا. فالمقام مقام الرجاء لا اليأس، مقام التفاؤل لا التشاؤم. "مالك يوم الدين" وهذه تمثل الكلية الضخمة العميقة التأثير في الحياة البشرية كلها، كلية الاعتقاد بالآخرة. فما يستوي المؤمنون بالآخرة والمنكرون لها. في شعور ولا خلق ولا سلوك ولا عمل. فالمؤمنون بالآخرة يملكون الاستعلاء على ضرورات الأرض، ولا يستبد بهم القلق على تحقيق جزاء سعيهم في عمرهم القصير المحدود وفي مجال الأرض المحصور، وعندئذ يملكون العمل لوجه الله وانتظار الجزاء حيث يقدره الله في الأرض أو في الدار الآخرة سواء، في طمأنينة لله وفي ثقة بالخير وفي إصرار على الحق وفي سعة وسماحة ويقين. والملك أقصى درجات الاستيلاء والسيطرة. فيتجلى في هذا اليوم ملك الله وملكوته في أروع مظهر لا ينازعه فيه ملك زائف أو حكم عارض "لمن الملك اليوم لله الواحد القهار" وفي تذكر اليوم الآخر تجديد للإيمان به وتجدد الخوف والمراقبة لله بما يعين على إتقاء فتن الحياة المليئة بالإغراءات. (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (غافر/ 17). "إياك نعبد وإياك نستعين" هكذا في بساطة وبلاغة عربية رائعة يؤكد أنّه لا يُعبد إلا الله ولا يستعان إلا به، وما الحياة إلا عبادة واستعانة، فحينما يفرد الله تعالى بالعبادة والاستعانة يكون التحرر من عبودية الأوهام. وتفك السلاسل والأغلال وتحطم الأوثان والأصنام ويبطل الشرك وعبودية النظم والأوضاع، ويتخلص الضمير البشري من استغلال الأشخاص والنظم. وليكن المسلم رقيباً على نفسه. فكل ما يواجهه في الحياة خارج الصلاة إما يدعوه إلى خضوع واستكانة. واما يدعو لسؤال واستعانة. وقد كفر بهما جميعاً وثار على كل تزعمهما أو تظاهر بهما. ولعل أهم ما نطلب من الله العون فيه هو عبادته والهداية إلى الصراط المستقيم، ومن الأدعية المأثورة عن الرسول (ص) (اللّهمّ أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) عن معاذ (رض) باسناد صحيح في سنن أبي داوود والنسائي. "اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين" في هذا المقام والمصلي واقف بين يدي الله لابدّ أن يحسن اختيار ما يطلبه منه وهو موقن بالإجابة. وليس هناك أفضل وأعظم من هذا المطلب الذي تضمنته فاتحة الكتاب وهو الهداية إلى الصراط المستقيم الذي يحقق لمن سار عليه سعادة الدنيا والآخرة ويوصل إلى الفوز بالجنّة ورضوان الله وينجي من النار. هذه الهداية إلى الصراط المستقيم هي الرسالة التي بعث الرسل من أجلها وانزلت الصحف وقام عليها سوق الجنة، الهداية إلى الصراط المستقيم هي التي لا قيمة لشيء إذا فقدت، ولا نقص في الحياة والسعادة إذا وجدت، وهي التي فطرت النفوس البشرية على حبها وطلبها والبحث عنها والجهاد في سبيلها. وهذه الهداية لا تفهم إلا بأهلها ولا تتمثل إلا في أصحابها. وأولئك هم الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وهم الذين طلب منا حبهم والاقتداء بهم (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ) (الأنعام/ 90). ويتبع ذلك التبرؤ من الذين جانبوا الهداية وكفروا بالنعمة لمعرفتهم الحق ثمّ حيدتهم عنه. فحل عليهم غضب الله، أو الذين بالغوا في التحريف وتورطوا في التفريط فوقعوا في الضلال. ولكنه صراط السعداء المهتدين الواصلين. هكذا نرى هذه الروعة في شمول هذه السورة رغم إيجازها، ومناسبتها الكاملة لموقف العبد بين يدي ربه في صلاته وتغطيتها لمشاعره وحاجاته بما يجعله لا يشعر بملل بتكرارها في كل ركعة، بل يشعر بأهمية كل معنى وكل لفظه بل وكل حرف من حروفها. وفي هذا المعنى يقول الأستاذ أبو الحسن عليّ الحسني الندوي في كتابه الأركان الأربعة: "ثمّ تأمل في سورة الفاتحة التي هي الدرة الفريدة في المعجزات السماوية، وقطعة رائعة من القطع القرآنية البيانية، لو اجتمع أذكياء العالم وأدباء الأُمم وعلماء النفس وقادة الإصلاح وزعماء الروحانية. على أن يضعوا صيغة يتفق عليها البشر على اختلاف طبقاتهم، وعلى تنوع حاجاتهم، وعلى تشتت خواطرهم، يتقدمون بها أمام ربهم ويتعبدون بها في صلواتهم. تعبر عن ضمائرهم ومشاعرهم، وتفي بحاجاتهم وأغراضهم لما جاءوا بأحسن منها أو مثلها. وصدق الله العليّ العظيم (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) (الإسراء/ 88). وقد قال تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) (الحجر/ 87). وقد ورد في صحيح مسلم في حديث العلاء بن عبدالرحمن مولى الحرقة عن أبي هريرة عن رسول الله (ص): يقول الله تعالى: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل. قال أبو هريرة: قال رسول الله (ص) اقرأوا يقول "فيقول العبد" "الحمد لله رب العالمين"، فيقول الله حمدني عبدي، ويقول العبد "الرحمن الرحيم" فيقول الله أثنى علي عبدي، فيقول العبد "مالك يوم الدين"، فيقول الله مجدني عبدي، فيقول العبد "إياك نعبد وإياك نستعين"، وقال هذه بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل. قال عبدي "اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين"، يقول الله عزّ وجلّ هذا لعبدي ولعبدي ما سأل.   التأمين: يسن لكل مصلي إماما أو مأموماً أو منفرداً أن يقول آمين بعد قراءة الفاتحة يجهر بها في الصلاة الجهرية ويسر بها في السرية، ويستحب للمأموم أن يوافق الإمام فلا يسبقه في التأمين ولا يتأخر عنه. فعن أبي هريرة (رض) أنّ رسول الله (ص) قال: إذا قال الإمام "غير المغضوب عليهم ولا الضالين" فقولوا آمين، فإنّ من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه" رواه البخاري. ومعنى آمين: اللّهمّ استجب... آمين.   المصدر: مجلة الدعوة/ العدد 107 لسنة 1985م

ارسال التعليق

Top