• ٢٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الحيوانات والهداية الإلهية

الأستاذ الشيخ جعفر السبحاني

الحيوانات والهداية الإلهية

  من الأدلّة التي يقيمها القرآن الكريم لمعرفة الله هي تلك الهداية التي تشمل مخلوقات الكون وأحياءه بحيث تهتدي – بهذه الهداية – إلى طريقها.

وهذا هو ما أشار إليه النبي موسى (ع)، عندما سأله فرعون عن ربه؟ فأجابه (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) (طه/ 50). فاهتداء الحيوانات التي طريقها التي تضمن حياتها وبقاءها دون أن تعرف معلماً، أو تتلقّى معلوماتها عن طريق الوراثة أو ما شابه، أمر يدلّ على وجود هاد يهديها. إنّ "اهتداء" هذه الحيوانات إلى ما يناسب طبيعتها ويوافقها خلقتها لا يمكن أن يكون بفعل الوراثة ولا بفعل الغريزة كما يدعي البعض. أمّا أنها لا يمكن أن تكون عن طريق الوراثة، فلأنّ المعلومات لا يمكن أن تنتقل من أحد إلى أحد من هذا الطريق، وإلا لكان ابن الطبيب طبيباً بالوراثة". وأمّا أنّ هذه الحيوانات لا تفعل ما تفعل بتأثير الغريزة فقط، فلأنّ الغريزة لا يمكن أن تخضع للانتخاب والاختيار، بينما نجد كثيراً من هذه الحيوانات عندما تواجه مفترق طرق تختار إحداها بفعل ما تتلقّاه من الهداية والتوجيه، وهذه الهداية التي تعين الحيوانات على الانتخاب هي الوحي كما عبر القرآن أو الإلهام كما عبر العلماء. جاء حول النحل في القرآن: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل/ 68-69). فحشرة النحل الصانعة لألذ الأشياء وأطيبها، تبدأ عملها منذ أن تخرج من البيض دون تعب وملل، وفي ذكاء مفرط، النحل وعمله. ومن هنا ندرك معنى قوله تعالى: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ). ومن المعلوم أنّ هذه الأعمال المقصودة الدقيقة التي تقوم بها حشرة النحل دون أن تخطىء أو تضل عن طريقها لو كانت بدافع الغريزة، لما صلح أن يقول الله: (وأوحى)، والوحي كما نعلم نوع من التوجيه المباشر الإلهي للمخلوق الحي، ونوع من الخطاب الصادر من جانب الله إلى الموحى إليه. فقوله اتخذي اسلكي يدل على ذلك. إنّ ما تفعله هذه الحشرة الذكية وكلّ الحشرات المثيلة لها كالنمل – مثلاً – خير دليل على وجود هاد لها، يوحي إليها ما يوحي، ويهديها إلى سبل حياتها. ترى في أية مدرسة وأي معهد تلقّت النحلة أو النملة وغيرها من الحشرات هذه المعلومات. هل ذلك إلا بوحي من خالقها وإلهام من بارئها وصانعها؟ ويكتب موريس بوكاي حول بعض الحيوانات التي تسارع إلى تعويض ما فقدته من الأعضاء فيقول: (وكثير من الحيوانات هي مثل سرطان البحر الذي إذا فقد مخلباً، عرف أنّ جزءاً من جسمه قد ضاع وسارع إلى تعويضه بإعادة تنشيط الخلايا وعوامل الوراثة، ومتى تم ذلك كفت الخلايا عن العمل لأنّها تعرف بطريقة ما أنّ وقت الراحة قد حان). ويشير موريسون إلى صفة انطباق الحيوانات مع المحيط والبيئة، فيقول عن هذه الصفة في مجال الخلايا: وقد يمكن السؤال عما إذا كان للخلايا فهم وإدراك أم لا. وسواء اعتقدنا أنّ الطبيعة قد زودت الخلايا بالغريزة – مهما تكن هذه – أو بقوة التفكير، أم لم نعتقد ذلك، فلا مناص لنا من الاعتراف بأنّ الخلايا ترغم على تغيير شكلها وطبيعتها كلها، لكي تتمشى مع احتياجات الكائن الذي هي جزء منه، وكل خلية تنتج في أي مخلوق حي يجب أن تكيف نفسها لتكون جزءاً من اللحم، أو أن تضحي نفسها كجزء من الجلد الذي لا يلبث حتى يبلى، وعليها أن تضع ميناء الأسنان وأن تنتج السائل الشفاف في العين أو أن تدخل في تكوين الأنف أو الآذان. ثمّ على كل خلية أن تكيف نفسها من حيث الشكل وكل خاصية أخرى لازمة لتأدية مهمتها. ومن العسير أن نتصور أنّ خلية ما هي ذات يد يمنى أو يسرى، ولكن إحدى الخلايا تصبح جزءاً من الأذن اليمنى، بينما الأخرى تصبح جزءاً من الأذن اليسرى". أليس كل هذا يكشف عن وجود القصد والتمييز في هذه الموجودات الحية؟ وهل هذا إلا تفسير قول النبي موسى (ع)، إذ قال: (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) (طه/ 50)؟ يبقى أن نعرف أننا نستطيع استنتاج وجود مثل هذا الإلهام والوحي والتوجيه الإلهي الموجّه إلى الحيوانات من قول موسى (ع)، إذ يذكر في كلامه أوّلاً ما يتعلّق بالجانب الخلقي الغريزي في الحيوانات بقوله: (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ). ثمّ أشار إلى ذلك الإلهام والوحي الإلهي بقوله: (ثُمَّ هَدَى). أنّ في الفصل بين الجملتين (أعطى كل شيء خلقه) و(هدى) بـ(ثم) هي للعطف المتراخى المتأخّر، دلالة أدبية على أنّ هذه الهداية لم تخلق مع الحيوانات والحشرات بنحو فطري وجبلي، بل هي هداية تصل إلى الحشرات عندما تحتاج إلى مثل هذه الهداية وعندما تواجه ما يضطرها إلى مثل هذا التوجيه والإرشاد الربانيّين، فحينئذ تأتيها هذه الهداية وينزل إليها ذلك الوحي والإلهام. إننا نستطيع أن نكتشف آثار هذه الهداية وهذا الإلهام في عالم الحشرات بجلاء ووضوح، إذا قايسناها بوليد الإنسان الذي لا يعرف شيئاً عندما يولد، ولا يمكنه أن يقوم بأي عمل إلا بعد مدة من التربية والرشد، وإلا بعد فترة من التعلم والدراسة، وتلقّي المعلومات والمعارف في المدارس والمعاهد، وإلا بعد سلسلة طويلة من التجارب والأخطاء والهفوات. وخلاصة القول: إننا نلاحظ في فعاليات هذه الحشرات عدة أُمور: أ‌-      أنّ هذه الحشرات تعرف احتياجاتها وطريق رفعها، بدون معلم مشهود ومنظور. ب- أنّ هذه الأحياء تعرف – على وجه الدقة – أصول تقسيم أعمالها، وانتخاب وظائفها وطرق تنفيذها على أحسن وجه وبصورة جماعية. ج- أنّ هذه الأحياء تسعى دوماً إلى تطبيق نفسها مع الأوضاع المحيطية المتغيرة، بل وتحدث هي بعض التغييرات في جسمها وأعضائها. وأمام هذه الظاهرة العجيبة، لنا أن نختار إحدى طرق ثلاث: 1- أمّا أن نحتمل بأنّ هذه الأحياء تملك بنفسها من العقل والإدراك والفهم ما لم يكتشف الإنسان إلا جزءاً ضئيلاً يساوي واحداً بالمائة منها. غير أنّ هذا الاحتمال لا يمكن أن يركن إليه، لأنّ الخلايا النباتية والحيوانية لا تملك العقل والفهم لتعالج مشاكلها على ضوئهما. ومن هنا يتضح سبب عدم إدخالنا للإنسان في أمثلة هذا الفصل، واقتصارنا على الحشرات كالنحل وما شابههما، لأنّ الإنسان إنما يقوم بأعماله على ضوء ما أوتي من عقل وفكر، بمعنى أن بيولجيته وخلاياه ودماغه المفكّر هي التي تضيء له سبيل حياته دون حاجة إلى إلهام من العالم الأعلى ووحي من خارج. هذا أمر أدركه البشر ذاته، وهي بالتالي فكرة واردة في شأن الإنسان. أمّا بالنسبة إلى هذه الحيوانات والحشرات فلا يمكن أن يخطر ببال أحد أنّها تملك عقلاً وفكراً، أو لا يمكن أن يخطر لأحد بأنّ الخلايا النباتية والحيوانية تملك ذلك ذاتياً - ذلك الفهم والفكر والشعور الهادي وتكون – هي بذاتها – موجدة للأفكار التي تعين تلك الأحياء على الاهتداء إلى سبل حياتها. وحيث إنّ هذا الاحتمال لا يمكن أن يكون وارداً وصحيحاً، لذلك لابدّ أن نسلك طريقاً آخر بأن نقول: 2- انّ طبيعة البناء الميكانيكي والتركيب المادي لهذه الأحياء تكفي – دون شيء آخر – لإيقاع هذه الأعمال، ونقول بالتالي: إنّ اهتداء هذه الأحياء وما سوى ذلك من الأعمال التي ذكرناها والتي نشاهدها في عالم النمل والنحل كل ذلك إنما هو نتيجة انتظام الأجزاء والعناصر الجسمانية لهذه الأحياء وانضمامها إلى بعض بنحو يؤدي ذلك النظم والتركيب الخاص إلى صدور هذه العمليات والأفعال من هذه الأحياء بصورة تلقائية لا إرادية. وبعبارة أخرى: أنّ الخواص الفيزياوية والكيمياوية لخلايا هذه الأحياء هي التي تقتضي وتوجب هذه السلسلة من الأعمال والنشاطات دون تدخل من خارج. وفي هذه الصورة لن يكون موضوع "اهتداء" هذه الأحياء إلى سبيل حياتها دليلاً مستقلاً على وجود الله، بل يندرج تحت عنوان "برهان النظم" لكونه مسألة ترجع إلى النظم، فقد جهّزت خلقة هذه الأحياء بجهاز متين على نظم خاص رصين يقدر معه وبفضله على القيام بشؤون حياته كالأشجار فيكون اهتداؤها ليس إلا مقتضي كيفية تركيب أجزائها. 3- أن نختار ما اختاره بعض المحقّقين إذ قال ما خلاصته: إنّ الحركات والفعاليات الصادرة من أي جهاز من الأجهزة إنما يمكن التنبّؤ بها من قبل ما دامت ترتبط بنفس ذلك الجهاز وتركيبته، بمعنى أنّ نفس الجهاز المادي وتشكيلاته الداخلية تكون كافية لأن تكون الإحاطة به سبباً للتنبؤ بأعماله وفعالياته. ونستخلص مما سبق أنّ القدرة الغيبية الخفية التي تهدي هذه الأحياء، قوة واسعة مطلقة تحيط علماً بكل الحشرات، إحاطة شاملة كاملة وهي عنده بمنزلة سواء. وتلك القوة الهادية العظيمة ليست سوى الله تعالى أو سائر القوى الغيبية المدبّرة لأمور الكون العاملة بإذن الله ومشيئته. وأخيراً لابدّ من الإشارة إلى نكتة مهمة وهي: أنّ هذا البرهان سواء رجع إلى برهان النظم بمعنى أنّ أعمال هذه الأحياء ما هي إلا نتيجة النظم المادي الحاكم على تركيبتها المادية، وتشكيلاتها الداخلية، أو قلنا بأنّ هناك قوة هادية هي التي تقوم بهداية هذه الحشرات إلى تلك الأعمال والمواقف العجيبة، وتساعدها في هذه الابتكارات والإبداعات فيكون هذا برهاناً مستقلاً بنفسه.   المصدر: مجلة الرياحين/ العدد 61 لسنة1432 هــ

ارسال التعليق

Top