• ٢٨ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٨ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الرِّسالات.. بين الأصالة والتحريف

اسرة

الرِّسالات.. بين الأصالة والتحريف

◄لقد واجهت الرِّسالات والدعوات الإلهيّة محاولات جاهلية متعدِّدة لطمس معالمها، وتشويه مبادئها، وإقامة الحواجز والموانع أمامها؛ لإعاقة مسيرتها، والحيلولة دون انتشار دعوتها.. وإفراغها من محتواها الإصلاحي، ليتسنّى لأولئك الجاهليين الالتفاف على تلك المبادئ، والتآمر على دعوة الإنقاذ والإخلاص.

ولعلّ أخطر ما واجهته الرِّسالات من عمليات الطمس والمحاربة هو عملية التزييف، والتحريف تنفيذاً لأهواء حفنة من الجاهلين المتسلطين، والمنتفعين الذين أرادوا أن يخضعوا الدِّين لأهوائهم، ويستهلكوا أهدافه في إطار مصالحهم.

وقد لَعِب كثير من علماء اليهود (الأحبار) وعلماء النصارى (القساوسة والرهبان والآباء) دوراً خطيراً في تزييف الرسالتين اليهودية والمسيحية، حتى حوّلوها إلى ديانات شبه وثنيّة، وطمسوا صفاتها الإلهيّة، فأخضعوا الدِّين لأهوائهم ومصالحهم، وأدخلوا عليه رواسب أفكارهم المنحرفة، فغدا الدِّين صيغة مشوّهة من الخرافات، والأساطير التي يرفضها العقل السليم، ويسخر منها العلم الصحيح.

فأساؤوا بهذا التزييف والتحريف إلى دعوة الدِّين والإيمان، فلم يعد الإنسان يواجه في هذه الصورة الدينية التي رسمتها تصوّرات الأحبار والقساوسة غير الخرافات والأساطير، وغير الدعوة إلى التحجُّر والركود، وتركيع الإنسان بين يدي الطغاة والمستبدّين، فكانت هذه الصورة سبباً للنفور من الإيمان، ومشجّعاً لإعلان الحرب والمعاداة ضد فكرة الدِّين.

والإنسان على حقّ عندما يتخذ هذا الموقف من تلك التصوّرات الزائفة المحرّفة، وعندما ينفر من هذا الفهم المتحجِّر المشوِّه لرسالة الدِّين بعد أن أفرغت من محتواها الإلهي الحقّ، وبعد أن غدت صيغة مشوّهة لا تمثِّل فكرة الإيمان، ولا تعبِّر عن دعوة الأنبياء.

وقد تحدَّث القرآن الكريم كثيراً عن هذا التحريف والتزييف، وبيّنه في مواضع كثيرة من آياته المقدّسة، في معرض حديثه عن اليهود والنصارى، فقال: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (المائدة/ 72-73).

(وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (التوبة/ 30).

(اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (التوبة/ 31).

(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) (البقرة/ 79).

وهكذا يوضِّح لنا القرآن الكريم صورة الانحراف التي أحدثها أحبار اليهود ورهبان النصارى في العقيدة والتشريع، وفي الفهم الإيماني الذي دعت إليه التوراة والإنجيل فاشترعوا القوانين والأنظمة، وفلسفوا الحياة، وعرضوا صورة العقيدة اليهودية والمسيحية بالطريقة التي تخدم مصالحهم، وتتناسب ومستوى وعيهم وتصوّرهم الخرافي المتحجِّر، فأحدثوا منعطفاً خطراً في مسيرة هاتين الرسالتين الإلهيّتين.. ساهم في حرف وتضليل قطّاع كبير من أجيال البشرية، وأبنائها؛ فاتّخذ هذا التحريف صيغة المعتقد، واحتلّ موقع الدِّين في نفوس المنتمين إليه والاتباع دونما وعي، أو تعامل عقلي ونقدي سليم، بل عدّوا تلك المفاهيم والمعتقدات من المسلّمات، والمعارف الإلهيّة التي لا تقبل الجدل.

وإن نحن حاولنا دراسة التوراة والأناجيل المتداولة بين أيدي أصحابها، وقمنا بنقدها ومناقشتها على أساس الفكر الديني الصحيح، لوجدنا صورة خرافية بعيدة كلّ البُعد عن روح التوراة المنزّلة على موسى (ع)، والإنجيل المنزّل على عيسى (ع)، والشواهد كثيرة على ذلك، والأدلّة عديدة، نذكر منها:

1 ـ يتداول المسيحيون الآن أربعة أناجيل، يختلف الواحد منها عن الآخر، اختلافاً كبيراً، ويتناقض معه تناقضاً واضحاً. ونحن نعلم أنّ الله سبحانه وتعالى أنزل كتاباً واحداً إلى عيسى (ع)، ولم ينزِّل كُتُباً وأناجيل متعدِّدة، فمن أين جاء هذا التعدُّد؟ وكيف نشأ هذا الاختلاف؟!

إنّ التفسير الوحيد الذي لا يقبل الشك لهذه الظاهرة هو التحريف والتزييف الذي تعرّضت له الكُتُب الإلهيّة (التوراة) و(الإنجيل) فضاعت أصالتها، وفقدت سلامة وجودها.

2 ـ من المسلَّم به أنّ الأديان كلّها صادرة عن الله تعالى وكلّها تؤمن بتوحيد الله، وتنزهه عن صفات البشر جميعاً، في حين نشاهد التوراة المتداولة بين أيدي اليهود الآن تخرج بشكل سافر على عقيدة التوحيد، وتشوّه هذا المبدأ الأساسي في رسالات الأنبياء جميعاً مدّعية أنّ عزير ابن الله، كما تدّعي الأناجيل الموضوعة نفس الدعوة، فتعتقد أنّ المسيح هو ابن الله، وأنّ المسيح يحمل طبيعة إلهيّة، إلى جانب طبيعته البشرية، وهو متحد مع الله، فهو الإله بصورة بشر.

وقد حملت التوراة والأناجيل تناقضات سافرة في الأقوال حول الله تعالى، فهي تثبت إنّ الله إله واحد والله لا إله سواه، وإنّ الله لم يره أحد قط، ولكنّها في موارد أخرى تنسف هذا التوحيد وتأتي بأفكار واضحة الشرك تؤكد الدسّ والتحريف فتقول إنّ الآلهة متعدِّدة، وإنّ موسى وهارون ومَن معهما من شيوخ بني إسرائيل قد رأوا الله في جبل سيناء، ورآه قبل ذلك يعقوب وجهاً لوجه، وصارعه ليلة كاملة، وظهر لإبراهيم عند بلوطات حمرا وفي أمكنة أخرى، ورآه قبل جميع هؤلاء آدم في الجنّة وكانت له مع جميعهم شؤون.

وواضح كلّ الوضوح لدى الفهم الديني السليم أنّ هذا التفكير تفكير محرّف، واعتقاد وثني شاذ، ومنحرف عن مبادئ الدِّين الذي جاء به موسى وعيسى (ع).

3 ـ إنّ هذه الكُتُب الموجودة الآن في أيدي اليهود والمسيحيين تتهم الأنبياء بالزِّنا، وشرب الخمر، والاحتيال، والتزييف، فتضع الأنبياء ـ وهم المقدّسون الذين يمثّلون السموّ الأخلاقي والاستقامة السلوكية ـ في صفوف المنحرفين والمجرمين، وقد حفلت التوراة، والأناجيل المحرّفة التي تدين محرِّفيها ومزوِّري دعوتها بالعديد من هذه الدعاوي الباطلة، التي تتهم الأنبياء، والمرسلين المطهرين من الذنوب والآثام بشتّى صنوف الرذيلة، والمفارقات المحرّمة.

فقد ورد في التوراة، في الإصحاح التاسع عشر من سفر التكوين، قصّة لوط (ع) مع ابنتيه في الجبل، إنّ الكبيرة قالت لأختها: "أبونا قد شاخ، وليس في الأرض رجل ليدخل علينا، هلمّي نسقي أبانا خمراً، ونضطجع معه، فنحيي من أبينا نسلاً. فسقتا أباهما خمراً في تلك الليلة، واضطجعت معه الكبرى. وفي الليلة الثانية سقتاه خمراً أيضاً ودخلت معه الصغيرة فحملتا منه، وولدت البكر ابناً وسمّته (موأب) وهو أب الموأبيّين، وولدت الصغيرة ابناً فسمّته (بن عمي) وهو أبو بني عمون".

وفي الإصحاحين الحادي والثاني عشر من صوموئيل الثاني: "إنّ داود النبيّ زنى بامرأة أوريان المجاهد المؤمن معه، وحينما أراد أن يتخلّص منه أرسله إلى الحرب، وجعله في المقدّمة، فقتل ثمّ استولى على زوجته".

وفي الإصحاح الثامن والثلاثين من التكوين: إنّ (يهوذا) بن يعقوب زنى بزوجة ابنه المسمّاة (ثامار)، وأنّها حبلت منه وولدت له ولدين (فارص) و(زارح)، وقد ذكر إنجيل متّى في الإصحاح الأوّل نسب يسوع المسيح وسليمان وأباه داود من نسل فارص (هذا الذي ولد من زنا يهوذا بكنّته ثامار).

إنّ أوّل ما تكلّم الربّ لهوشع، قال الربّ لهوشع: اذهب خذ لنفسك امرأة زنى، وأولاد زنى، لأنّ الأرض قد زنت تاركة الربّ، فذهب وأخذ (جومر) بنت ويلام، فحبلت، وولدت له ابنين وبنتاً، وفي الإصحاح الثالث: إنّ الربّ قال له: "اذهب أيضاً أحبب امرأة حبيبة صاحب وزانية، كمحبّة الربّ لبني إسرائيل".

وفي الإصحاح الثاني من إنجيل يوحنّا: "إنّ المسيح حضر مجلس عرس فنفد خمرهم، فعمل لهم ستة أجران من الخمر بطريق المعجزة".

وفي الحادي عشر من إنجيل لوقا: "إنّ المسيح كان يشرب الخمر، بل كان شرّيب الخمر ـ أي كثير الشرب ـ ".

وواضح لدى كلّ إنسان مؤمن بالله، أنّ مثل هذه الأقاويل، إنّما هي دس وافتراء على الأنبياء، وتشويه لشخصياتهم الناصعة الطاهرة.

ولو قرأنا الأناجيل والتوراة المحرّفة لوجدناها تعجّ بالخرافات والأكاذيب المدسوسة التي تكشف هدف الوضّاع، ومقاصد المحرّفين الذين دسّوا على الأنبياء والرُّسُل فاستهدفوا النيل من عقيدة التوحيد والتعريض بشخصيات الأنبياء.

4 ـ ومن الأدلة الواضحة على تزييف هذه الكُتُب، هو سريان روح الفكر الوثني فيها، كالشِّرك، وتجسيد الإله، والاعتقاد بأنّ المسيح هو الله بصورة إنسان.

فقد تأثّر وضّاع الأناجيل وكُتّاب الفكر المسيحي بالفكر الوثني السائد آنذاك، فأدخل أولئك الوضّاع كثيراً من عقائد الرومان الوثنيّين، وأفكارهم؛ فشوّهوا وجه الإنجيل الناصع، واستحدثوا صيغة مشوّهة جديدة للعقيدة المسيحية، ممّا يؤكّد بعد النص، وغربة روح الإنجيل النقية.

فالصيغ المتداولة بين الأيدي الآن هي صيغ الأناجيل التي كتبت بعد عشرات ومئات السنين من تاريخ رفع المسيح (ع) إلى بارئه.

فقد كتبها الرهبان والقساوسة بالشكل الذي تصوّروه، وأرادوه.. متأثرين بالحضارة الرومانية الوثنيّة، وبالفكر اليهودي المزيّف.. الذي لعب دوراً بعيداً في تحريف الإنجيل، وتشويه المسيحية.

إنّ المنقبين من مؤرّخي الأديان ومتتبّعي الآثار توصّلوا إلى أنّ عقيدة (التثليث) صورة منقولة عن عقائد الرُّومان والبوذيّين الوثنيّة، وإنّ فكرة (الأقانيم) تعود إلى الفرس والهنود المشركين الأقدمين، وإنّ الأب والابن ترجع إلى مصدر برهمي قديم.

وحتى عقيدة الصلب وعقيدة الفداء، فقد كانتا لأهالي (النيبال) في إلههم (أندرا)، ولقدماء المصريين المشركين في مخلصهم (أوزيريس)، وحتى النبوّة الإلهيّة كانت للرومانيين في (روملوس)، حيث زعموا أنّ أُمّه (رياسلفيا) المنذورة للعفّة، ولدته من (مارس) إله الحرب. وللهنود المشركين القدماء الذين يؤمنون بـ(سافتري) الشمس الإله الواحد وبابنه (آني) النار الذي تجسّد في (فايو) الروح الحي في بطن (مايا) العذراء.

ونجد قصّة الفداء في الهندوكيّة، وتقديم كرشنا نفسه للموت من أجل تخليص الإنسان من الخطيئة الأصلية، وكذلك موضوع العمادة عند الأُمم الوثنيّة السابقة للمسيحية.

ومَن يتتبّع تاريخ الأديان يجد ظلالاً كثيرة من الوثنيّة الرومانية ومن البرهمية والصينية، ومن الديانات القديمة الأخرى قد ارتسمت بوضوح على اليهودية والمسيحية القائمتين.

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقائق، قبل أن تثبت في عصرنا الحاضر بمئات السنين، حيث ورد في معرض احتجاجه على الذين زعموا أنّ الله هو المسيح بن مريم، وعلى الذين قالوا أنّ الله ثالث ثلاثة بقوله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) (المائدة/ 77).

والعجب أنّ بولس الذي وضع بتعاليمه ورسائله الأربع عشرة أساس العيسوية، كما هي الآن، كان من أشد أعداء المسيحية منذ ظهورها حتى ما بعد المسيح، ولذا قد يصحّ القول بأنّ ديانة المسيح قد أقصيت تماماً عن حياة النصارى منذ ذلك اليوم الذي اعتبرت فيه رسائل بولس أساس المسيحية.

ومنذُئذٍ عزلت الأناجيل والأسفار القديمة عن حياة الناس العملية لتكون مرجعاً تاريخياً لا سلطان له على أي توجيه، وقد اعترف الكثيرون من أحرار الفكر في العالم الغربي "إنّ الدِّين الذي اخترعه بولس، وسمّاه المسيحية، لم تكن له علاقة بتعاليم المؤسس".

ويتحدّث نيتشه عن البون الشاسع بين تعاليم المسيح وديانة بولس، فيقول: "لقد كانت دعوة المسيح في جوهرها دعوة إلى النظام والقوّة، أمّا بولس فقد حوّلها إلى دين صار ملاذاً للخائفين والمذعورين".

ولذلك أطلق نيتشه على بولس اسم (باسكال اليهودي) لأنّه بنظره ميّال إلى الخرافات والمكر. ويعبّر ـ كولن ولسون ـ عن هذا بقوله: "إنّ قول المسيح: كن سيِّد نفسك، قد تلاشى وحلّ محلّه مسيح آخر من اختراع بولس".

وقد ورد في رسالة بولس إلى روميه: "لتخضع كلّ نفس للسلاطين.. لأنّه ليس سلطان إلّا من الله.. ومَن يقاوم السلاطين ترتيب الله..". و"إنّ المسيحية لم ترتكز على تعاليم المسيح، وإنّما ارتكزت على عقيدة ميتافيزيقية اخترعها بولس".

ولهذا يأسف الكثير من أحرار الفكر، لأنّ حركة الإصلاح البروتستانتية لم تكن لصالح فكرة المسيح، بل لصالح مسيحية بولس. وقد أكّد ذلك (ويلز) في (ملخّص التاريخ) بقوله: "إنّ المسيح لم يبشِّر بالمسيحية المعروفة اليوم، وإنّما أحدثها بولس المتعلِّم بالإسكندرية، ومنها أخذ تعاليمه الوثنيّة، التي استحالت فيها آلهة قدماء المصريين ايزيس وهورس وسيزاييس إلى الأب والابن وروح القدس..".

5 ـ وقد استمرت الكنيسة المسيحية على مواصلة التزييف والتشويه، ومسخ روح المسيحية الحقّة، وطمس معالم رسالة المسيح (ع) إلى درجة صوّرت معها للمسيحيين أنّ بإمكانها أن تغفر ذنوبهم، وأن تدخلهم الجنّة مهما خالفوا، ومهما فعلوا من جرائم وشرور، بشراء براءات من الكنيسة يتعهّد فيها البابا بالمغفرة، ومحو الذنوب لقاء مبلغ معيّن من المال.

والذي يدرس نظام الحياة في الكنيسة، ويتابع سيرة البابوات وسلوك القساوسة والرهبان، يكتشف الدواعي الأساسية الكامنة وراء هذا التزييف والتلاعب بالقيم والمبادئ المسيحية التي دعا لها المسيح (ع).

فقد فعلت الكنيسة كلّ ذلك من أجل أن تجمع المال وتكدّس الثروة، وتمارس صنوف اللذّة والاستمتاع المحرّم باسم الدِّين، وتحت ستار التطهير من الذنوب؛ فأصدرت صكوكاً وتعهّدات للمذنبين تنصّ فيها على: "ربّنا يسوع يرحمك يا فلان ويحلك باستحقاقات آلامه الكلّية القداسة.. وأنا بالسلطان الرسولي المعطى لي أحلك من جميع القصاصات، والأحكام والطائلات الكنسية التي استوجبتها، وأيضاً من جميع الإفراط والخطايا والذنوب التي ارتكبتها ـ مهما كانت عظيمة وفظيعة من كلّ علّة ـ وإن كانت محفوظة لأبينا الأقدس البابا والكرسي الرسولي. وأمحو جميع أقذار الذنب، وكلّ علامات الملامة، التي ربّما جلبتها على نفسك في هذه الفرصة، وأرفع القصاصات التي كنت تلتزم بمكابدتها في الطهر، وأدرك حديثاً إلى الشركة في أسرار الكنيسة، وأقرنك في شركة القدّيسين، أدرك ثانية إلى الطهارة، والبرّ للذين كانا لك عند معموديتك حتى أنّه في ساعة الموت يغلق أمامك الباب الذي يدخل منه الخُطاة إلى محلّ العذاب والعقاب، ويفتح الباب الذي يؤدي إلى فردوس الفرح وإن لم تمت سنين مستطيلة. فهذه النعمة تبقى غير متغيّرة، حتى تأتيك ساعتك الأخيرة باسم الأب والابن والروح القدس".

وإنّ مَن يتفحّص هذا الصك يجد أنّ الكنيسة أباحت لأتباعها كلّ فعل ومقارفة محرَّمة مهما تكن عظيمة، فبإمكانهم ـ مع هذا التعهّد ـ أن يتركوا عبادة الله ويأكلوا أموال الناس، ويظلموا إخوانهم في الإنسانية، ويقترفوا شتّى المخالفات والآثام والذنوب؛ من كذب وزنى وغش وعدوان، ثمّ يشتروا الصكوك البابوية التي تتعهّد بمحو الذنوب، وادخال المسيحي المثقل بالذنوب والمعاصي إلى الجنّة.

وهكذا يضع البابا نفسه في موضع الإله الذي يغفر ويعفو، ويدخل الجنّة، وهو يدري أن لا حقّ له بذلك، بل هو بشر كغيره من الناس، لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً، ولكنّه يريد أن يجمع المال والثروة لإشباع شهواته، وملذّاته، ويسيّر جهازه الضخم المرتبط بسلطته.

وقد حمل القرآن الكريم على هذا السلوك الجشع الذي سلكه الرهبان والأحبار الذين حوّلوا المسؤولية الدينية، إلى إقطاعية مالية جشعة، تستغفل الذهنيات الساذجة، وتمتص الدماء، وتستهلك جهود الإنسان.. حمل عليهم ليكشف طبيعة التكوين المزيّف لهذه الزعامة الدينية، ويفضح الأهداف النفعية المتناقضة مع أهداف الدِّين، ودعوته الإصلاحية الشاملة، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (التوبة/ 34).►

ارسال التعليق

Top