• ٥ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٦ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الصلاة.. ذلك التناظر المدهش

د. عماد الدين خليل

الصلاة.. ذلك التناظر المدهش
◄إنّ (المواقف) التي اتخذها الإسلام إزاء القضايا المختلفة التي كانت تعرض له حيناً بعد حين، أيام دعوته الأولى كانت تجيء دائماً موازية في حجمها وامتدادها لأبعاد القضية أو المشكلة المعروضة، متخذةً من الأساليب المادية أو الفكرية أو الروحية ما يكفل التغلب إليها، أو صياغتها بما يحقق انسجامها ومقاييس ومواصفات العالم الجديد الذي جاء الإسلام لكي يبنيه.

ولنأخذ مثلاً على ذلك "الفوضى" و"التسيّب" و"الانفلات" التي درج عليها القرون الطوال في جاهليته، ثمّ جاء الإسلام (بالنظام) الذي أراد أن يقابل به هذه السلبيات المتأصلة في أعماق العربي تأصل عاداته وأخلاقه الجاهلية جميعاً... وكان على ذلك الدين الجديد – إذن – أن يشحذ كلّ الطاقات ويعتمد كلّ الأساليب لإحلال النظام محلّ الفوضى، والانضباط محلّ التسيّب والانفلات..

ونحن نقف هنا عند جانب واحد فحسب من جوانب محاولاته المتشعبة لتحقيق هذا الهدف.. ذلك هو استخدام الصلاة أخطر العبادات في الإسلام وأجلّها، للمعاونة على مجابهة الفوضى وتأثيل النظام في نفس العربي المسلم وفي علاقاته الاجتماعية على السواء.

لقد صُممت الصلاة من حيث التوقيت والأداء الفردي والجماعي على السواء، تصميماً عجباً!! إنّها – وهي الفعل الذي يمارسه المسلم خمس مرات في اليوم وأكثر – جاءت، ضمن ما جاءت به من جوانب أخطرها ولا ريب الجانب التعبدي الذي يقود إلى الاتصال اليومي بالله سبحانه، بمثابة عملية تدريبية دائمة على التزام النظام والانضباط اللذين سرعان ما اكتسبا قدسية الصلاة نفسها، وغدا على المسلم، إذا ما أراد إتقان عبادته الأساسية هذه، أن يلتزم نظامها الزمني، والرياضي والجماعي التزاماً دقيقاً... وهذا التدريب، بحجمه الكبير ذاك، واستمراريته، وقدسيته، وبُعده الروحي، يجيء ولا ريب موازناً لكلّ سلبيات الفوضى والتسيّب قديراً على أن يتغلب عليها، جديراً باستئصالها من نفس العربي بمجرد انتمائه للإسلام والتزامه المحتوم بأداء الصلاة.

ولقد وصفت الصلاة بأنها كانت على المؤمنين (كتابا موقوتاً)، ووسم الذين يتأخرون عن أدائها في أوقاتها المحددة بالكسل والنفاق.. ورُفعت درجات الذين يؤدونها في المسجد مع الجماعة إلى بضع وعشرين ضعفاً، وطلب من المصلّين أن ينقفوا صفوفاً متراصة متوازية وألّا يتركوا ثغرة ولا خللا.. وقيل لهم أكثر من مرة، انّ الله لا ينظر إلى الصف الأعوج، ونُدّد بالذين يسبقون الإمام في الركوع والسجود، واستخدمت معهم، وهم حديثو عهد بالبداوة، أشد الصور "التجسيمية" الساخرة لردهم عن ممارسة هذه الخطيئة في نظام الصلاة.. وقيل للذين يرفعون رؤوسهم إلى السماء، على هواهم، في أعقاب كلّ ركوع، بأنهم يعرضون أبصارهم – بذلك – لكي يخطفها الله!!

ترى لو لم يجابه العربي، حديث العهد بالبداوة والفوضىى، بهذا الضبط وتلك الصرامة المتناهية في تحقيق النظام، أكان يمكن أن تنفّذ تلك التجربة التعبدية الباهرة بذلك القدر من الهندسية والتناظر والاتساق، وسط صحراء لم تكن تعرف – حتى ذلك الحين – شيئاً من بداهات النظام؟!

ومن عجب أن يظل جانب التناظر والاتساق هذا في صلاة المسلمين يحمل طابع الجدّة والجمالية على مرّ العصور، ويحمل إلى الإسلام، حيناً بعد حين، أُناساً من أكثر مثقفي العالم نضجاً وإدراكاً ينتمون إلى أشدّ الأُمم التزاماً بالنظام وكراهية للفوضى..

وأمامنا حشد كبير من شهادات هؤلاء الذين انتموا لديننا في أعقاب رؤياهم المباشرة لهذا الأداء التعبدي الذي يصل حدّ "الموسيقية" في تناسقه الرياضي، ويحمل من وراء هذا "الشكل" المتناظر الجميل قلوباً وأرواحاً يعمرها الحب، والإيمان واليقين!! ►

 

المصدر: كتاب آفاق قرآنية

ارسال التعليق

Top