• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

العقل وهندسة التفكير

د. م. عبدالله عليّ الشرمان

العقل وهندسة التفكير

◄1- المقدمة:

الحمد لله الذي خلق الإنسان وكرّمه على كثير من خلقه، وجعل له العقل نعمةً كبرى، وميزةً عظمى ليقوم بالسعي للهداية والرشاد، والعمل على تحقيق الاستخلاف الرباني المبارك في هذه الأرض.

ومن أعظم ما أنعم الله تبارك وتعالى على الإنسان نعمة العقل والإدراك التي كانت أساساً للتكليف الرباني والقيام بواجبات الأمانة الكبرى في الأرض.

ولأنّ العقل أودعت فيه طاقة كبرى، وقدرات متميزة فإن حُسن رعايته وتعهده حفظاً وتحفيزاً وتدبيراً وإدارة كان حد مقاصد الشريعة الإسلامية الكبرى، وإحدى القدرات الراقية للعقل هي قدرة التفكير التي تُشكِّل الأساس المتين، والقاعدة الصلبة لقدرات العقل الأخرى.

والتفكير قدرة متميزة وهبها الله عزّ وجلّ للإنسان وموقعها العقل والقلب، ومجال أثرها وعملها الجوارح وآفاقها النفس والكون والحياة، ضمن حدود المباحات والمتاحات طبقاً لقوانين الآفاق والأنفس. والتفكير منبع وقائد الأقوال والأعمال، فإمّا أن يكون قائداً إلى الخير والإيجابية أو سائقاً إلى الشر والضلال.

وعند التفحص في أوضاع الناس تجد قلة منهم قد أعطوا التفكير مدىً مناسباً من الأهمية والعناية اللائقة. وكذلك تجد قلة منهم يدركون معنى ومفهوم التفكير وقدرة العقل، وأنها يمكن أن تُحسِّن وتُطوِّر هذه القدرة العقلية للوصول إلى أداء متميز وكفاءة عالية وبالتالي راحة البال والسعادة وانشراح الصدر. ويتفاوت الناس في قدراتهم ومواهبهم وحصيلتهم العلميةً والعقلية طبقاً لحكمة أرادها الله تعالى حتى تستقيم الحياة وفق السُّنن والقوانين التي أودعها الله تعالى فيها.

 

2- العوامل المؤثرة في تكوين وتشكيل العقل:

تتعاون عدة عوامل في تكوين العقل البشري وتشكيله ليؤدي وظائفه الطبيعية والذكائية والإبداعية بمستوى مُعين من شخص إلى آخر ومن هذه العوامل:

أ‌)       العوامل الوراثية، حيث تشمل القدرات والصفات الموروثة من الآباء والأُمّهات طبقاً لما وهبهم الله تعالى ثمّ لظروف تعليمهم ومعيشتهم.

ب‌) عوامل محيطية، ترتبط بالظروف والأحوال المعيشية التي تحيط بالإنسان وتكتنف حياته وظروفها وتقلباتها ومراحلها المختلفة، ومن هذه العوامل الظروف والأحوال العائلية والاجتماعية والرفقة والصحبة وظروف الدراسة والعمل وأُسلوب التربية والتنشئة والتهذيب.

ت‌) المُحفزات العقلية وعوامل تدريب القدرات الذكائية وتحفيزها ومثال ذلك الظروف التعليمية والتدريبية أثناء مرحلة الطفولة، ومستوى ما يتعرض له الإنسان من مولِّدات للتساؤلات والأفكار ومجالات تحفيز العقل واستثارته، إضافة إلى مستوى التدريس والحوار والحديث الذي يسمعه الإنسان ويجريه مع الآخرين بالإضافة إلى آثار التقنية الحديثة ووسائل الاتصال والتكنولوجيا المتقدمة.

ث‌) الخبرات الذاتية والتراكمية الناتجة عن مراس الحياة وسبر غورها وتحمّل تقلباتها والتصبّر على ظروفها ومفاجآتها، بالإضافة إلى الدروس والعبر المستفادة من تجاربها المنتهية بالنجاح أو غيره.

ج‌)   معدل القدرة على اكتساب المهارات والإحاطة بالجديد من مجالات التدريب والتعلّم، وكلما زاد هذا المعدل لدى الإنسان تزداد الفرصة للحصول على مراس عقلي متميز مما يعني تشكّل العقل بطريقة طبيعية ومتميزة ترقى بصاحبها في مدارج التفوق والتميز وزيادة إنتاجية العقل.

ح‌)   القابلية للتطور والارتقاء وتجريب أنماط حياتية جديدة ضمن ضوابط الشرع الحنيف. ويصاحب ذلك البعد عن التقليد والعجز عن التجديد والرغبة في إحداث نوعية إيجابية صالحة على صعيد النفس والحياة.

خ‌)   القدرة على التآلف والتعايش والانسجام مع الناس، فكلما زادت هذه القدرة تفتح آفاقاً واسعة أمام الإنسان لتحصيل قدرات عقلية جديدة بالإضافة إلى تدريب العقل وتحسين مِراسه على طريق التشكّل التراكمي المتواصل للعقل، وبالتالي زيادة الإنتاجية والإحسان والخيرية علماً بأنّ هذه القدرة تتناسب عكسياً مع الزمن (العمر).

د‌)     القابلية للتحكم بالقدرات الذاتية وتوجيهها وتركيزها في مجالاتها الصحيحة وخاصة القدرة على التركيز وضبط القدرة الذكائية والتفكيرية، وخاصة أنّ هذه القدرات بطبيعتها مُتفلتة يصعب ضبطها إذا تُركت دونما تحكّم وتحتاج إلى التجميع والتركيز لبدء العطاء والإنتاج النوعي. ولفهم هذا الأمر جيداً لنا أن نتأمل انتقال بعض القدرات عن بعض مَن فقدوا نعمة السمع أو البصر حيث تنتقل قدراتهم لتتركز في شكل قدرات عقلية تُترجم بقدراتٍ حركية أو بيانية أو إبداعية.

 

3- التفكير وبزوغ الأفكار وأُفولها:

أ) القدرة على التفكير أو نعمة التفكير من كريم عطاء الله تعالى للإنسان وهي من جوانب التكريم الرباني المبارك لبني آدم، ومن مدارج التفضيل التي خُصَّ بها الإنسان من بين مخلوقات الله عزّ وجلّ.

ومن معاني التفكير وأوصافه، يمكن إيراد ما يلي:

1-  قدرة راقية وهبها الله تعالى للإنسان، وأداتها العقل، وعواملها عناصر النفس والجسم والمؤثرات المحيطة بها ضمن دائرة قوانين الآفاق والأنفس.

2-  مجموعة العمليات النفسية والفسيولوجية التي يؤديها الدماغ نتيجة لتفاعله من المكونات الداخلية في النفس والجسم ومع العوامل المحيطة بالإنسان.

3-  نتاج تفاعل العقل والقلب مع النفس والكون.

4-  مَنبع وقائد الأقوال والأعمال، فإمّا أن يكون قائداً إلى الخير أو سائقاً إلى الشر والضلال.

ب) بزوغ الأفكار وأُفولها... كيف تنشأ الفكرة وما مسارها ومصيرها؟

يمكن القول إنّ هناك دوائر أربعة للعقل تتولد وتنتقل خلالها الأفكار وتعمل الدائرة الأولى (دائرة التساؤل) على تحفيز وتغذية الدوائر الأخرى وهذه الدوائر هي:

1-  دائرة التساؤل.

2-  دائرة التفكّر.

3-  دائرة الانشغال الذهني.

4-  دائرة الإبداع.

وتنشأ الفكرة في العقل كنتاجٍ طبيعي لتفاعل عمليات التساؤل والتفكُّر في داخل النفس، وهذا النتاج يؤدي إلى ورود الخواطر والانشغالات الذهنية والنفسية، فيتولد عن ذلك فكرة أو مجموعة أفكار، حيث يكون أمام هذه الفكرة المتولدة ثلاث طرق (مسارات) هي:

1-  النسيان والضياع أو التشتت.

2-  الحفظ في العقل الباطن ليعود أثرها أو لِتُستثار في وقت لاحق.

3-  التبلور بصورة قناعة، والقناعة إمّا أن تُترجم إلى قولٍ ثمّ فعلٍ أو إلى فعلٍ بشكل مباشر.

وأصل الفكرة ينبع من عقيدةٍ ومبدأ، ويقاوم هذا المصدر نزغ الشيطان، ضمن دائرة التدافع بين الحقِّ والباطل، ويستمر التنازع حتى يستقر الأمر على أحدهما بقدر درجة الإيمان ومستواه في القلب، حيث يقول الله تعالى في كتابه العزيز:

(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) (الشمس/ 7-8).

(إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) (الإنسان/ 3).

(وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) (الملك/ 10).

 

4- مجالات التساؤل والتفكّر:

غالباً ما يدور في النفس والعقل تساؤلات عديدة يمكن أن تكون في صورة واحدة أو مجموعة مما يلي:

1-  التساؤل عن موقع النفس (الذات) وأحوالها ومسيرتها ومآلها.

2-  التساؤل عن الوضع الشخصي الذي يمكن أن يشمل الأمور التالية:

-         تحقيق الذات والطموحات والآمال.

-         التحصيل العلمي والمعرفي.

-         الرفاه المعيشي.

-         الجاهزية الإيمانية والتعبدية.

-         الانتعاش الاقتصادي.

-         آفاق المستقبل والمال والبنون.

3-  التساؤلات العلمية والثقافية والأكاديمية.

4-  التساؤلات الحياتية (الاجتماعية، الفقهية، السياسية، الاقتصادية).

5-  التساؤلات المرتبطة بأحوال المجتمع الصغير والكبير.

6-  التساؤلات المرتبطة بأحوال الأُمّة الإسلامية وأحوالها وكيف السبيل إلى النهوض.

7-  التساؤلات المرتبطة بالدعوة إلى الله تعالى وكيفية نصرتها ودفعها إلى الأمام.

8-  التساؤلات الحائرة، وتشمل ما يلي:

أ‌)       تساؤلات يصعب التعبير عنها – تساؤلات يصعب تحديدها.

ب‌) تساؤلات يصعب البوح بها والإفصاح عنها.

ت‌) تساؤلات يصعب التعامل معها.

ث‌) تساؤلات يُنتظر الوقت المناسب للإفصاح عنها.

ج‌)   تساؤلات صعبة يُعتقد أنّ ليس لها إجابة محددة.

ح‌)   تساؤلات يصعب سردها كاملة وتبيان تفاصيلها.

 

5- مجالات التفكّر:

أمّا عالم التفكّر الرحب فإنّه من أوسع مجالات الحرية والانطلاق والأجر والمثوبة التي وهبها الله تعالى للإنسان، حيث يقول جلّ شأنه في كتابه العزيز:

(وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران/ 191).

(وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (الذاريات/ 21).

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (القمر/ 17).

أما مجالات التفكر الرحبة التي ينشغل فيها العقل، فهي غالباً ما تشمل:

1-   التفكّر في الكون البديع (الآفاق).

2-   التفكّر في النفس البشرية (الأنفس).

3-   التفكّر في كتاب الله تعالى وآياته وأحكامه وإعجازه وأمره ونهيه.

4-   التفكّر العلمي والبحثي والمعرفي.

5-   التفكّر في أحوال الأُمّة وفي أحوال غيرها من الأُمم.

6-   التفكّر في الأحوال الشخصية والاجتماعية.

7-   التفكّر في أحداث اليوم والليلة وتعاقب الليل والنهار.

8-   التفكّر في المُبتدأ والمنتهى والمآل والمصير.

9-   التفكّر في عِبَرِ الزمان وتداول الأيام بين الناس.

10-                    التفكّر في مستقبل الأيام والطموحات والآمال.

 

المصدر: كتاب إدارة الذات وهندسة القدرات/ سلسلة التفكير والإبداع 2

ارسال التعليق

Top