• ٢٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

القيادة العسكريّة في الإسلام

العقيد الركن ميثم هادي

القيادة العسكريّة في الإسلام
◄القيادة ظاهرة اجتماعية ذات جذور عميقة تتصل بطبيعة الإنسان، وتراثه الثقافي ومشاركته لمن حوله في مجتمعه، فالوجود المشترك للجماعات يخلق الحاجة إلى من ينظم العلاقات القائمة بينهما، وفي هذه الحالة يتولى أحدهم القيادة. وهكذا يرى علم النفس انّ طبيعة الحياة تجعل من حاجتنا إلى قادة أمراً لابدّ منه، وانّه ما من جماعة إلا ويجب أن يكون لها قائد. فإنّ لكل فرد داخل المجتمع شخصيته، وطموحاته، ونشاطاته التي تميزه وتحدد كيانه. ونظراً لتباين شخصيات الأفراد وطموحاتهم ونشاطاتهم، ولكيلا يؤدي هذا التباين إلى تشتيت الجهود وتعارضها، فقد تبنّت المجتمعات منذ بداياتها الأولى نظاماً يحفظها من التفتت، ويضمن تنمية مواهب أفرادها، وامكاناتهم الذاتية، وتوجيه جهودهم الفردية داخل تيار جماعي يخدم الصالح العام للمجتمع كله وضبط تطلعات "الأنا" في الإطار الذي لا يتعارض مع مصلحة "الكل" فالمجموعة تتكون من طاقات متمايزة دائماً، ومتعارضة غالباً، ولا يمكن الإفادة منها إلى الحد الأقصى، إلا إذا كان هناك نظام قادر على تفجيرها وجمعها ضمن تيار واحد يشكّل محصلة الطاقة الإجمالية للمجموعة. وتتطلب الأعمال الكبيرة جمع الجهود المبعثرة. لذا يجب أن يسير الجميع على طريقة القائد ليس لأنها الطريقة الفضلى، فهناك أكثر من وسيلة للعمل، وكلها جيدة، لأنها الطريقة الوحيدة التي تجمع الصفوف وتوحدها. ويسير عليها الجميع، برغم اختلاف آرائهم، فتتحد قواهم وقلوبهم اتحاداً منتجاً يعطي أفضل الثمرات. ورسول الله (ص) قائد جيش الإسلام الأوّل قد قرر هذا المبدأ محدداً وواضحاً، حين قرر ضرورة وجود قائد للجماعة، حتى ولو كانت صغيرة جدّاً فقال (ص): "إذا كان ثلاثة في سفر فيؤمّروا أحدهم" لذلك، فإنّ الإسلام يعطي القضية القيادية دوراً بارزاً، ويمنحها بُعداً مؤثراً في حياة الأُمّة، وصنع الأحداث، وتطبيق رسالة الإسلام، وتلك سُنّة الله وقانونه الكوني العام. وظاهرة القيادة ظاهرة كونية عامة، تنبسط على الوجود بأسره، المادي والطبيعي، والحيواني والإنساني. فمنطق الوجود العام كما خلقه بارؤه يفرض هذه الحقيقة – حقية الارتباط القيادي. يقول عزّ من قائل في كتابه الكريم: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (الفرقان/ 74)، و(وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ) (غافر/ 38). وفي الدعاء المأثور: "اللّهم إنّا نرغبُ إليكَ في دولة كريمة، تُعزُّ بها الإسلام وأهله، وتذلُّ بها النِفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك". فالقيادة في الإسلام ليست خلق شيء، بقدر ما هي تنظيم، وتوجيه الرجال، والحدب عليهم، والحصول على محبتهم. وعظمة هذه المهمة ناشئة عن توحيد الصفوف في سبيل واجب مقدس.   حق القائد في الطاعة: لا يستطيع القائد أن ينتج ويقدم نفسه ومواهبه للصالح العام إن لم يكن متأكداً من طاعة رجاله عند الشدائد، ولا تهدف الطاعة إلى قتل الشخصية أو إذابتها، بل انها تعمل على تحديد الجهود وتوحيدها ليكون العمل مثمراً وباتجاه واحد. وهي في الوقت نفسه توجيه لأعمال الأفراد وجهودهم والحد من حريتهم ونزواتهم الشخصية، في سبيل هدف أسمى، ومصلحة جماعية عليا. ويقرر الإسلام حق القائد في الطاعة، أي طاعة المرؤوسين له. وفلسفة الطاعة هنا تكمن في انها لصالح الجماعة أوّلاً وأخيراً، أي انها ليست نوعاً من الخضوع إلى مستبد، فالقائد يقود الجماعة لتحقيق هدفها، ولا يستقيم ذلك إلّا بطاعة أفراد الجماعة لأوامره. لقد كرّمت المدرسة الإسلامية القائد خير تكريم، ووضعته في أسمى منزلة، فحق القائد في الطاعة ثابت في أكثر من آية في القرآن الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ...) (النساء/ 59)، و(وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) (المائدة/ 56). ويقول النبي (ص): "اسمعوا وأطيعوا وان ولّي عليكم عبد حبشي"، و"من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني". وعن الإمام عليّ (ع): "أطع من فوقك يطعك من دونك". وليست السلطة ضرورية في وقت ما مثل ضرورتها في الحرب، ويحس المقاتل بذلك، وربما كان إحساسه مشوشاً أو مرتبكاً، إلّا انّ إحساسه بضرورة السلطة قوي لا ريب فيه. يقول نابليون: "انّ أساس السلطة كامن في مصلحة الفرد الذي يطيع". إنّ السلطة الحقيقية هي السلطة التي تؤثر في روح القطعة لتثير فيها طاعة فعّالة لكن هذه السلطة لا تفرض من قبل الرؤساء، كالقادة على الزام الوحدات. انها سلطة تؤخذ. والقائد الحقيقي لا يفرض من الأعلى فرضاً وإنما يفرض نفسه بنفسه. ان تعيينه لا يفعل سوى أن يضعه في وضع أفضل، كي يكتسب السلطة الحقيقية وقطعته وحدها تعيد إليه السلطة، عندما تمنحه ثقتها المضمرة والكاملة منحنية أمام حقه في الرؤية، والتفكير، والتقرير، نيابة عن الجميع، ولا تستطيع القطعة تعيين القائد لكنها تكرسه. ينبغي ألّا نعتقد انّ بإمكان القائد أن يكرس نفسه بفضل المساعدات والوعود، أو بفضل مجموعة من الخدع (الديماغوجية) التي يتقنها المرشحون للانتخابات، لأنّ مثل هذه الحيل لا تنطلي على الجنود، فهم يحسون إحساساً غامضاً بأنّ الموضوع أخطر بكثير من مجرد تعيين ممثل أو مفوض للسلطة، انّ الموضوع يتعلق بحياتهم وهم يصدرون حكمهم عليه على هذا الأساس وقد يكون هذا الحكم مضمراً إلّا انّه رصين وقاسٍ في آن واحد. ينبغي أن تكون سلطة القائد العسكري واسعة، أوسع وأعمق من سلطة أي قائد ميداني آخر، لأنّ على القائد العسكري قيادة الرجال إلى الموت برغم مراوغات ومقاومة غريزة المحافظة على البقاء، ولكن السلطة لا تكون على هذه الشاكلة إلّا إذا بدا بوضوح انّ القائد يمارسها لا لفائدة أو مجد شخصيين بل إخلاصاً لقضية تتجاوزه هو أيضاً. ولا ينكر انّ السلطة قد تخطئ في بعض الأحيان، والإنحاء أمام خطأ القائد برغم ثقتنا المطلقة بصحة رأينا أمر شاق جدّاً، ومع ذلك فإنّ هذا الخضوع واجب وحكمة. انّ رفض الخضوع يعني إعاقة العمل الجماعي وشله، وبما انّ الخضوع في الحرب مفروض بشكل حتمي فمن المفضل القبول بالخطأ بدلاً من الفساد وحفظاً للمصلحة العليا ومنعاً للرؤوس المتمردة أن ترتفع. انّ قطعة عسكرية قليلة التدريب ولكنها بيد قائدها لأفضل بكثير من أخرى أكثر تدريباً وأقل طاعة.   اختيار القائد: القيادة أمانة، وهي وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، والأمانة عصب الأُمّة في جميع شؤونها والله تعالى يأمرنا فيقول: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) (النساء/ 58)، و(وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا) (الأنعام/ 152)، و(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة/ 8). يقول الرسول الكريم (ص): "أيّما رجل استعمل رجلاً على عشرة أنفس علم انّ في العشرة أفضل ممن استعمل فقد غشَّ الله وغش رسوله وغش جماعة المسلمين وأيّما رجل أمّ قوماً وهم له كارهون لم تجز صلاته اذنيه". وقد حدد الإسلام عناصر أساساً ينبغي توافرها في العنصر الإنساني ليكون قائداً مؤهلاً، منها: التأهيل الذاتي من جوانب نفسية وعقلية وجسمية؛ كالذكاء، والحزم، والشجاعة، والتضحية، وبعد النظر، والحكمة، والصبر. العنصر الآخر هو الكفاءة القيادية، وتوافرها في القائد، وقدرته على التأثير في مرؤوسيه. العنصر الثالث هو الالتزام الشرعي، فليس بمقدور أحد أن يتبوأ مركز القيادة مالم يكمن قدوة في التزام حدود الشرع الإسلامي وتمسكه بالتقوى ومثلاً في القول والعمل. والعنصر الأخير، تمتعه بحب مرؤوسيه له، إذ يقول رسول الله (ص): "خيار أئمتكم الذين تحبونهم وتصلون عليهم ويصلون عليكم، أي تدعون لهم ويدعون لكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم". ما أعظم هذا الحب المتبادل بين القائد وجنوده الذي يعتبر عنه القرآن الكريم بأجلى صورة: (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) (المائدة/ 54). فأمانة الاختيار تتطلب الموضوعية، ونبذ جميع العواطف، والتجرد من كل هوى، إلا من خلال الحق والصدق والعدل. وتعني استقامة الضمير، ونقاء النفس، وشجاعة الرأي، وخلوص القلب من الجبن والرياء والنفاق، على أساس من العلم والمعرفة. وعن أبي ذر الغفاري (رض) قال: "قلت يا رسول الله ألا تستعملني؟ (أي تولّيني عملاً عاماً) قال: فضرب بيده على منكبي، ثمّ قال: "يا أبا ذر انك ضعيف، وانها أمانة، وانها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذ بحقها وأدى الذي عليه فيها". ولا يمكن لفرد من الأفراد أن يكون قائداً حقيقياً، إلا إذا كان عميق الجذور في دينه وشعبه وفي قطعته، ويعيش بصورة كاملة أحداثها المصيرية حتى في أحلك اللحظات المؤلمة من المعركة انّه لا يمكن أن يكون قائداً إلا إذا أحسسنا في قلبه كل نبضات قطعته التي لا ينعزل عنها. انّ هذا التلاحم بين القطعة والقائد شيء لا غنى عنه، لأنّ على القائد أن يبقى شفيع قطعته بعد الله بلا انقطاع. وقول الإمام عليّ (ع) إلى مالك الأشتر في اختيار القائد العسكري يعتبر النموذج في هذا الجانب: "فولِّ من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك، وأنقاهم جيباً، وأفضلهم حلماً، ممن يُبطىء عن الغضب، ويستريح إلى العُذر، ويرأف بالضعفاء، وينبو على الأقوياء، وممن لا يُثيره العنف، ولا يقعُدُ به الضعف".   ضرورة وجود القائد: تستطيع جماعة متوسطة الكفاءة أن تندفع وتنتج وتصبح ممتازة إذا قادها قائد جيِّد، كما تضعف الجماعات الجيِّدة وتتحطم إذا رماها سوء الحظ بقائد ضعيف يخمد الحماسة ويطفئ شعلة الاندفاع. إنّ مجموعة من الرجال بدون قائد مجموعة فاشلة وخاصة إذا كان مشكّلة من عناصر ممتازة ذات مواهب. فكلما كانت شخصيات الرجال قوية توجب وجود قائد قادر على كسب احترامهم وتوحيدهم وتوجيه جهودهم نحو هدف دقيق يقبله الجميع، وإلّا تبعثرت القوى، وساد تجاوز كل واحد على صلاحيات اخوانه وانطلق كل فرد في اتجاه معاكس للآخرين، غير مهتم بمصالحهم وشعورهم واتجاهاتهم. وخلاصة الفكرة.. انّ القائد رمز الوحدة والسلطة، وتوحد أوامره كلمة الجميع وتمنعهم من التفكك والفناء.   صفات القائد: قام الباحثون بدراسة حياة القادة العسكريين وتحليلها لاستخلاص صفات القائد، ودونت في كتاب (نظامات الخدمة السفرية) وهي من أوثق المصادر العسكرية الحديثة: "ولكي تكون قراراته صحيحة، لا تكفيه الشجاعة الشخصية، ولا الإرادة القوية الثابتة، ولا تحمّل المسؤولية بلا تردد، بل فضلاً عن ذلك عليه أن يكون واقفاً وقوفاً تاماً على مبادئ الحرب، وقادراً على إبداءِ الحكم السريع الواضح، وذا مخيلة مقرونة بمزاج لا تأخذه نشوة النصر ولا تثبط عزيمته كارثة الخيبة وإن يكون سابراً غور الطبع البشري". وتضيف بعض المصادر الحديثة حقيقتين أخرتين وهما: القابلية البدنية، والماضي الناصع المجيد. ويرى علماء النفس الحديث انّ أبرز صفات القائد: -        أن يكون كفوءاً ودؤوباً في العمل. -        حازماً وجديراً بالثقة. -        مستعداً لإتخاذ القرارات وتحمل المسؤولية. -        قادراً على تماسك نفسه في المواقف العصيبة. -        يعمل على تكامل شخصيته وتماسكها. -        تتوافر لديه القدرة على التعليم. بالإضافة إلى ما ذكر أعلاه يرى علماء النفس في تحديد سمة القائد بما لي: "إنّ الذين يعملون على إفادة أكبر جزء ممكن من المجتمع الإنساني يعتبرون أرقى الشخصيات جميعاً وهم في الغالب أقرب إلى درجات التكامل، وانّ درجة تكامل الشخصية تتناسب تناسباً طردياً مع اتساع دائرة المجتمع الذي يطمح الفرد إلى إسعاده". وتتفق معظم الآراء على الصفات أدناه، بالإضافة إلى ما تقدم، للقيادة العسكرية: 1-    الهدوء وضبط النفس: (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) (الكهف/ 28)، و(أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) (محمد/ 14)، وعن الإمام عليّ (ع): "عدو العقل الهوى" و"أشجع الشجعان مَنْ غَلب هواه". فعلى القائد الذي يود أن يكون أهلاً للقيادة أن يبدأ بقيادة نفسه ولا يمكن لمن لا يسيطر على نفسه أن يسيطر على الآخرين وأن توحي شخصيته بالهدوء والصفاء والتوازن حتى يشعر المحيطون به بأنّهم في مأمن من نزواته. وعلى القائد أن يغذي نفسه ثقافياً وروحياً، مكرساً كل يوم وقتاً للقراءة والتفكير، ومختلطاً باستمرار مع أصدقائه لا للسرور والراحة فحسب، بل للمناقشة في أمور اجتماعية وعلمية. 2-    معرفة الرجال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) (الحجرات/ 13). وعن الإمام عليّ (ع): "من جهل الناس استنام إليهم" و"لا يعرف الناس إلّا بالاختبار". تعد القيادة فناً صعباً لارتباطها بالطبيعة البشرية، وبالمزايا غير المتشابهة للمرؤوسين، ولغموض القوانين النفسية التي تستند عليها حتى الآن، وانّ معرفة الرجال بعمق من أدق أعمال القائد وأكثرها تأثيراً، إنها ينبوع القوة التي يملكها إنها القادة العظام. 3-    الإيمان بالهدف: (وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى) (النجم/ 39). وعن الإمام عليّ (ع): "تمام العمل استكماله". فالقائد الذي لا يؤمن بهدفه ليس أهلاً للقيادة وإيمانه بالهدف وحده لا يكفي، إذ عليه أن ينقله إلى الآخرين، وأن يفهم كل مرؤوس مسؤوليته في المهمة، ويبعث فيه الشجاعة، ويقنعه بالمثل العليا التي تدفع إلى العمل. انّ مثل القائد الذي لا يستطيع نقل الإيمان بالهدف إلى مرؤوسيه كمثل المخترع الذي يريد دفع القاطرة دون بخار. 4-    الشعور بالسلطة: (إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (هود/ 88)، و(وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الشعراء/ 109). إنّ القائد الضعيف الذي يسيّره الآخرون يسيء إلى شخصه، ومرؤوسيه، ومبدأ السلطة الذي يمثله في آن واحد، وإذا فقد احترام مرؤوسيه فقد حقه في المركز الذي يشغله، والمحترم هو من كان مقدراً في البيت والمجتمع والعمل. ولم يسمع يوماً ما عن جنود تذمروا من تنفيذ مهمة إذا كانت قيادتهم حازمة وحكيمة، بل على العكس تنجم أسوأ أعمال التمرد من فقدان هيبة القائد وسلطته. إن تقبل النصيحة ليس ضعفاً أو فقداناً للسلطة، والقائد الناجح من كان مرناً ومستعداً لتقبل المشورة وواثقاً من نفسه بحيث يتخذ القرار وحده: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ) (آل عمران/ 159). وعن الإمام عليّ (ع): "لا رأي لمن انفرد برأيه" و"ولا ظهير كالمشاورة". 5-    البداهة، والمبادرة، وأخذ القرار: يقول الإمام عليّ (ع): "الفرصة تمر مرّ السحاب، فانتهزوا فرص الخير". و"بادروا بالفرصة قبل أن تكون غصّة". والقدرة على اتخاذ القرار صفة لازمة للقيادة فإن لم يكن القائد متحلياً بها تعطّل العمل، ويعرف القائد من قراراته، فالحياة مواقف، وفي المواقف تضحية، ومن لا يقرر في الوقت المناسب ربما يستطيع أن يكون عالماً كبيراً، أو فيلسوفاً يشار إليه بالبنان، ولكن يستحيل عليه أن يكون قائداً ناجحا. 6-    التواضع: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (الشعراء/ 215)، و(عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) (التوبة/ 128)، ويقول الإمام عليّ (ع): "رأس العلم التواضع". وعن عيسى (ع): "بالتواضع تعمر الحكمة لا بالتكبّر، وكذلك في السهل ينبت الزرع لا في الجبل". القيادة مهمة اجتماعية لابدّ لطالبها أن يتخلى عن الأنانية والمصالح الفردية والزهو الباطل. يقول (لاكوردير): "تتم الأعمال العظيمة في العالم بدافع الواجب، وتتم الأعمال السيئة بدافع الأنانية والمصلحة الفردية والغرور". 7-    الواقعية: (وَفِي الأرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (الذاريات/ 20-21). وعن الباقر (ع): "ولا معرفة كمعرفتك نفسك". ويقول الإمام عليّ (ع): "اقصر رأيك على ما يعنيك". وهناك مثل صيني قديم يقول: "من عرف نفسه حقق نصف النصر، ومن عرف نفسه وعرف عدوه حقق كل النصر". تتمثل الواقعية في معرفة الفرد نفسه وإمكاناتها وحدودها ووضعها في مكانها الذي تستحقه، لا الذي ترغب فيه، وعلى القائد في المستويات العليا، سواء كان عسكرياً أو مدنياً، أن يتعاون مع مجموعة من المفكرين المبدعين، مهمتهم المحافظة على اندفاع العمل وإدامة شعلة التجديد فيه. وهذا ما يفسر ضرورة زيادة عدد المهتمين بالدراسات والتجارب والبحوث في المؤسسات العسكرية والمدنية. 8-    طيبة القلب: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء/ 107). ويقول سيد المرسلين محمد (ص): "لا تصلح الإمامة إلّا برجل فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن معاصي الله، وحلم يملك به غضبه، وحسن الولاية على من يلي حتى يكون كالأب الرحيم". الرئيس الطيب القلب هو من كان قاسياً على نفسه، يرى المتاعب ناجمة عن أخطائه، رحيماً مع مرؤوسيه يرى أخطاءهم متاعب فيسعى إلى تخفيفها. ويقول (جورج دوهامل): "عندما يشعر الإنسان انّ طيبة القلب قد غادرت الكون، فليعلم انّها لم تغادر في الحقيقة سوى قلبه". ويقول (غوستاف لوبون): "انّ كلاماً طيباً خارجاً عن قلب طيب أفضل من عقل راجح مشرب بالقسوة".. و"الكلمة الطيبة صدقة" كما في الحديث الشريف. 9-    الحزم: (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) (النور/ 2)، و(وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) (المعارج/ 32). وعن الإمام عليّ (ع): "الحازم يقظان" و"المؤمن هو الكيِّس الفطن"، و"لا يضيع الله حداً وأنا حاضر". يقتل ضعف القائد الوحدة ويفككها بينما يداويها الحزم ويشد أواصرها، ويؤدي القائد المتخاذل بوحدته إلى الفشل الذريع. 10-                        العدل: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ) (النحل/ 90). وعن الرسول الأكرم (ص): "أول من يدخل النار أمير لم يعدل"، و"والعدل زينة الإيمان". العدل هو الاستقامة عند تنفيذ الواجب بشكل لا يقبل النقد. والاستقامة وحدها ترفع معنويات المجموعة أكثر من وسائل القيادة كلها مجتمعة، وكم جذوة من جذوات التمرد والحقد أشعلها قادة غير عادلين في قلوب الجنود أثناء الحرب. 11-                        اعطاء المثل: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (هود/ 112)، و(قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (يونس/ 89). لا يتبع الجنود أبداً تعليمات المنطق السليم والعقل السليم فقط، انّهم يودون رؤية مثلهم العليا متجسدة في رجل يعلمهم ويقودهم فيسيرون خلفه بدافع الإعجاب والاقتداء. وكثيراً ما نسمع أنّ حياة فلان الخاصة ملكه، وانّ القائد يعطي المثل أثناء العمل وهو حر في تصرفاته خارج العمل يفعل ما يشاء. فهل هذا صحيح؟ وهل هناك انفصال بين التصرفات العامة والخاصة؟ هنالك من يفرق بين حياة المرء الخاصة والعامة. وهناك من يقول انّ المرؤوسين يريدون من قائدهم مثلاً في العمل وخارج العمل. والحقيقة انّ اعطاء المثل في العمل ضروري وجيد، ولكن المثل الأعلى هو المثل الكامل في كل مكان. عن الإمام عليّ (ع): "من يشتري سيفي هذا؟ فوالله لو كان عندي ثمن ازار ما بعته". 12-                        المعرفة: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) (طه/ 114)، و(هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (الزمر/ 9)، و(وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) (البقرة/ 247). وعن الإمام عليّ (ع): "عليكم بالدرايات لا بالروايات"، و"العلم أصل كل خير". فالمعرفة أساس من أسس القيادة ودعامة من دعائمها، وتزداد القيمة المعنوية للقائد بازدياد معلوماته، فعليه أن ينميها ليكون أهلاً لخدمة الهدف بشكل أفضل.   بحث مقارن: بعد هذه المقدمة عن صفات القائد العسكري حرّي بنا أن نقارن هذا مع ما جاء به الإسلام قبل أربعة عشر قرناً خلت، عندما كانت البشرية تعيش في ظلام دامس، والقائد العسكري حينذاك، كغيره من البشر، يتميز بالهمجية بأبشع صورها من سلب ونهب وعدم اكتراث لكل ما هو إنساني. وعندما نقارن القيادة الإسلامية في عصرها، فهناك بون شاسع، ولكن سنسلط الأضواء على القيادة العسكرية متمثلة بقائد جيوش المسلمين الأوّل الرسول الأكرم (ص) مع ما اتسم به من مزايا القائد العسكري الحديث. إذا كانت الصفات المثالية للقائد قد جاءت نتيجة لدراسة شخصيات أبرز القادة في التاريخ، وهي مزايا لشخصيات متعددة لا لشخصية واحدة، إذ ليس بالإمكان اجتماعها في شخص واحد، فإنّ كل هذه الصفات بل وصفات أخرى غيرها قد اجتمعت في رسول الله (ص)، لذلك فهو المثل الأكمل كما يقول تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (الأحزاب/ 21). 1-    الشجاعة: كان رسول الله (ص) في ذلك المثل الذي لا يجارى ويكفي ما قاله بطل الإسلام عليّ بن أبي طالب (ع) في وصف شجاعة الرسول الأكرم (ص): "كُنّا إذا احمرَّ البأسُ اتّقينا برسول الله (ص)، فلم يكن أحد منا أقربَ إلى العَدُوِّ منه". 2-    الثقة والحب المتبادلان: كانت ثقة أصحاب الرسول (ص) به عظيمة جدّاً كما كانت ثقته بهم. يكفي ذكر موقفهم في صلح الحديبية، إذ لولا ثقتهم لرفضوا الصلح، أما ثقته بهم فالشواهد كثيرة وفي جميع المعارك الإسلامية يشركهم في حرب ضد عدو يفوقهم عِدّة وعُدّة. أما المحبة المتبادلة فحسبنا أن نذكر موقف أصحابه منه في معركة اُحد لما أحدق به المشركون من كل جانب فأخذ المسلمون يصدون عنه بأجسامهم ولم يقتصر ذلك على الرجال بل شمل النساء أيضاً، فلقد أخذت نسيبة الخزرجية سقاءها واستلت سيفها وأخذت تذود عن الرسول (ص) واصيبت بثلاثة عشر جرحاً واغمى عليها فلما أفاقت لم تسأل عن زوجها وولديها المشتركين في القتال مع الرسول (ص)، بل كان سؤالها أول ما أفاقت هو: كيف حال الرسول؟ أما حب الرسول (ص) لأصحابه فيكفي أن نذكر كيف نعى شهداء مؤتة وعيناه تذرفان الدمع، وكيف رفض الاقتراح بقتل حاطب بن أبي بلتعة لأنّه أرسل كتاباً إلى قريش يخبرهم فيه بحركة المسلمين لفتح مكة، بل على العكس أمر الرسول (ص) أن يذكر المسلمون حاطباً بأفضل ما فيه: (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) (المائدة/ 54). 3-    قوة الشخصية والإرادة الثابتة: سنضرب مثلين حول قوة الشخصية والإرادة الثابتة.. أرسلت قريش عروة بن مسعود الثقفي لمفارضة الرسول (ص) يوم الحديبية فعاد إلى قريش يقول: "يا معشر قريش! إني جئت كسرى في ملكه وقيصر في ملكه والنجاشي في ملكه. واني والله ما رأيت ملكاً في قوم قط مثل محمد. لا يتوضأ إلّا ابتدروا وضوءه، ولا يسقط من شعره شيء إلّا أخذوه، وانّهم لن يسلموه لشيء أبداً" بهذا الوصف المعتبر يصف مشرك من أعداء الرسول (ص) شخصية النبي الكريم (ص). أما عن الإرادة الثابتة فالرسول (ص) يخاطب عمه أبا طالب وهو يحاول اقناعه بالرجوع عن قريش في بداية الدعوة الإسلامية: "والله يا عم، لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر أو اهلك دونه ما تركته". هذه الشخصية المملوءة تواضعاً ورحمة ورأفة، لا يستطيع أحد أن يرفع صوته فوق صوت النبيّن ولا يرد، ولا يتردد أي شخص في تنفيذ أمره. انّ عظمة هذه الشخصية هي في حب صاحبها للناس جميعاً، ورغبته في هدايتهم، وخلقه العظيم تصاحبها إرادة صلبة تتحمل أقسى أنواع المحن والشدائد على يد المنافقين والمشركين واليهود لنشر الدين الإسلامي.. انّ حياة النبيّ (ص) تمثل الإرادة الثابتة بأجلى صورها. 4-    إدارة الحرب: قاد بنفسه (ص) ثماني وعشرين غزوة تكللت بالانتصارات الساحقة، عدا موقعة اُحد. ووجه ثماني وخمسين غزوة أخرى.. نشر الإسلام في أصقاع الجزيرة العربية، ورفع راية التوحيد، وطبق مبادئ الحرب في كل غزواته، فكان يتعرض لأعدائه، ولم يعطهم الفرصة لمباغتته، ويعرف نواياهم قبل حين. ويكفي أن نذكر انّ غزواته الكبيرة كانت خسائرها قليلة لدى الطرفين، ولكنها حققت نتائج سريعة بنشر الإسلام والسلام في ربوع الجزيرة العربية، وهذا أقصى أنواع النصر لأي قائد عسكري. إنّ التطرق لصفات سيد المرسلين النبيّ الأكرم (ص) القيادية تحتاج إلى الكثير وما ذكر هنا على سبيل المقارنة النسبية، ونختم هنا الصفات القيادية بما ذكره أحد المستشرقين وهو (واشنجتون آرفنج)، جرياً على المثل (والفضل ما شهدت به الأعداء): "كانت طباع الرسول هادئة متلائمة، وكان يمرح أحياناً ولكنه كان في معظم الأحوال جاداً، كانت له ابتسامة خلابة. كانت جميع تصرفات الرسول تدل على رحمة عظيمة، وكان سريع البديهة، قوي الذاكرة، واسع الأفق، عظيم الذكاء، كان الرسول عادلاً فكان يعامل الأصدقاء والغرباء والأغنياء والفقراء والأقوياء والضعفاء على قدم المساواة، وكانت عامة الناس تحب الرسول، إذ كان يحسن استقبالهم ويستمع إلى شكواهم، كان حسن الطباع حليماً رحيماً جسوراً". وعن الإمام الحسن (ع) قال: "سألت خالي، هند بن أبي هالة التميمي. وكان وصّافاً للنبي (ص) فقال: "كان رسول الله (ص) فخماً مفخماً، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، إذا زال زال قلعاً، يخطو تكفؤاً ويمشي هوناً، سريع المشية، إذا مشى كأنما يخط من صبيب، وإذا التفت التفت جميعاً، خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جلّ نظره الملاحظة، يسوق أصحابه، ويبدر من لقى السلام. متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة، ولا يتكلم في غير حاجة، طويل السكوت، يفتح الكلام ويختمه باشداقه، ويتكلم بجوامع الكلم فصلاً، لا فضول فيه ولا تقصير، دمث ليس بالجافي ولا بالمهين، يعظم النعمة وان دقت ولا يذم منها شيئاً، ولا يذم ذوقاً ولا يمدحه، ولا تغضبه الدنيا وما كان لها، فإذا تعوطي الحق لم يعرفه أحد، ولم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له، إذا أشار أشار بكفه كلها.. جلّ ضحكه التبسم. يخزن لسانه إلّا فيما يعنيه، ويؤلفهم ولا ينفرهم، ويتفقد أصحابه، ويسأل الناس عمّا في الناس. فيحسن الحسن ويقويه، ويقبح القبيح ويوهنه، لا يقصر لله الحق ولا يجوزه، الذين يلونه من الناس خيارهم، أفضلهم عنده أعمهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة وموازرة. لا يجلس ولا يقوم إلّا على ذكر الله – جلّ اسمه – ولا يوطن الأماكن وينهي عن ايطانه، وإذا أنهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس، ويأمر بذلك، ويعطي كُلا من جلسائه نصيبه، حتى لا يحسب جليسه انّ أحداً أكرم عليه منه، من جالسه أو قادمه في حاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه، ومن سأله حاجة لم يرده إلّا بها وبميسور من القول. قد وسع الناس منه بسطه وخلقه، فكان لهم أباً، وصاروا عنده في الحق سواء، مجلسه مجلس حلم وحياء، وصبر وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا يوهن فيه الحرم، يوقرون فيه الكبير، ويرحمون فيه الصغير، ويؤثرون ذا الحاجة، ويحفظون الغريب، دائم البشر، سهل الخلق، ليّن الجانب، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخّاب، ولا فحّاش ولا عياب ولامداح، قد ترك نفسه من ثلاث: المراء، والإكثار، وما لا يعنيه. وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحداً ولا يعيره، ولا يطلب عورته ولا عثرته، ولا يتكلم إلّا فيما يرجو ثوابه. إذا تكلم أطرق جلساؤه، كأنما على رؤوسهم الطير، وإذا يسكت تكلموا، ولا يتنازعون عنده الحديث، متى تكلم أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم عنده حديث أوليهم، يضحك مما يضحكون منه ويتعجب مما يتعجبون منه. ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه ومسألته، حتى ان كان أصحابه ليستجلبونهم، ويقول: "إذا رأيتم طالب الحاجة يطلبها فارفدوه" ولا يقبل الثناء إلّا من مكافئ، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يجوز بانتهاء أو قيام. كان سكوت النبي (ص) على أربعة: على الحلم، والحذر، والتقدير، والتفكر. فأمّا تقديره ففي تسوية النظر، والاستماع بين الناس، واما تفكره ففيما يبقى ويقي. وجمع له الحلم والصبر فكان لا يغضبه شيء ولا يستفزه، وجمع له الحذر في أربعة: اخذه بالحسن ليقتدي به، وتركه القبيح لينتهي عنه، واجتهاده فيما أصلح أمته، والقيام فيما جمع لهم خير الدنيا والآخرة".   المصدر: مجلة التوحيد/ العدد 58 لسنة 1992م

ارسال التعليق

Top