• ٢٧ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٨ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

المرأة.. بين الفكر الديني والفلسفي

أ. د. محمّد سعيد رمضان البوطي

المرأة.. بين الفكر الديني والفلسفي

منذ حين، والحديث عن المرأة وموقف الإسلام منها، يدور مكرراً في حلقتين مفرغتين، يراوح في إحداهما المدافعون عن مكانة المرأة في الإسلام، ويراوح في الأخرى المتهمون للإسلام بانتقاصه لمكانتها وإهماله لبعض حقوقها.

أولئك يعيدون الحديث عن مظاهر تكريم الإسلام للمرأة من أوله، كلما وصلوا منه إلى آخره.. وهؤلاء يكررون معزوفة الحديث عن الحقوق التي غيَّبها الإسلام عن المرأة ولم يمتعها بها دون ملل!.. وقلّ أن يلتقي شيء من الكلام المكرور لكلّ من الطرفين على نقطة تستبين فيها إجابة مقنعة من جهة إلى أخرى. بل إنّنا لننظر فنجد أنّ الحديث عن هضم الإسلام لحقوق المرأة، أمر مطلوب لذاته، صدقت التهمة في ذلك أو كذبت. ومن ثم فإنّ هذا الحديث يسير مناكباً لحديث المؤكدين نقيض ذلك، مناكبة الخطين المتوازيين اللذين لا شأن لأحدهما بالآخر، ومن ثمّ فإنّهما لا يلتقيان في ابتداء ولا ختام!.

من أجل هذا قررت أن يكون حديثي في هذا الموضوع حديث مواجهة مع الطرف الآخر، لا حديث مناكبة وموازاة له. وأحسب أنّي سأسلك منهجاً لا يمكن ذلك الطرف من أن يتلوّى عنه إلى اختيار سبيل بعيد ومعبَّد، يطمئن إلى أنّه لن يلقى فيه أي مواجهة أو صدام.

لن أعود فأكرر على أسماعكم الحديث المعروف عن موقف الشريعة الإسلامية من المرأة وحقوقها. ولكني ساستعيض عن ذلك بالتركيز على أمرين اثنين:

أحدهما: أخطاء يتورط فيها كثير ممن يتهمون الإسلام بانتقاص المرأة وهدر حقوقها، بل يتورط فيها بعض ممن يدرسون الإسلام دراسة سطحية ويتحدّثون باسمه فيها.

ثانيهما: سؤال أوجهه إلى مَن يرى أنّ الثواب الكريمي الذي أسبغه الإسلام على المرأة فيما مضى، لا يرقى إلى المستوى المطلوب لها في هذا العصر.. سؤال أوجهه إليهم عن المشروع الذي يرون أنّه الأمثل بها والأكثر وفاءً لحقوقها، مما أهمله الإسلام أو تناساه.

أمّا الأخطاء التي أنبه إليها، فهي الأمور التالية:

أوّلاً: الخطأ الذائع الذي يرى فيه البعيدون عن فهم الإسلام والالتزام به، مرتعاً خصباً لاتهامه بالانتقاص من كرامة المرأة وهضمه لحقوقها. وهو الوهم الذي ركب أذهانهم في تصوّر أنّ جملة (فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ) (النساء/ 176)، الواردة في القرآن، قانون عام شامل، يُعمل به كلما اشركت امرأة مع رجل في الميراث!. وهذا جهل فادح لأبسط ما يجب أن يعلمه كلّ مَن ينتمي صادقاً إلى الإسلام.

إنّ مصداق جملة (فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ) حالة واحدة لا ثانية لها، وهي الحالة التي يعصّب فيها الوارث أخته، أي يجعلها شريكة معه في أخذ ما تبقى من الميراث بعد حقوق أصحاب الفروض. أمّا في سائر الحالات الأخرى فالمرأة بين أن تكون مساوية للرجل في الإرث وبين أن تكون أوفر حظاً منه. وإليكم هذه النماذج التالية منها:

- إذا ترك الميت أُمّاً وأباً وأولاداً، ورث كلّ من أبويه سدس التركة، دون تفريق بين ذكوره الأب وأنوثة الأُم، وذلك بنص القرآن.

- إذا ترك الميت عدداً من الإخوة للأُم، اثنتين فصاعداً، وعدداً من الأخوات للأُم اثنتين فصاعداً، فإنّ الإخوة يرثون الثلث مشاركة، والأخوات يرثن الثلث أيضاً مشاركة، دون تفريق بين الإناث والذكور.

- إذا تركت المرأة المتوفاة زوجها وابنتها، فإنّ ابنتها ترث النصف ويرث والدها الذي هو زوج المرأة المتوفاة الربع، أي فالأنثى ترث هنا ضعف ما يرثه شريكها ووالدها الذكر.

ومَن أراد أن يزداد من الأمثلة على هذا فليعد إلى دراسة شيء من أحكام الميراث، قبل أن ينتقد إلى انتقاداته من منطلق الجهل.

ثانياً: الخطأ الذي يتورط فيه مَن يتوهمون أنّ للذكورة والأنوثة بحدّ ذاتهما أثراً في الشهادة وقبولها.. وإنّه لوَهْم يناقض المقاييس التي تدور عليها أحكام الشريعة الإسلامية في أمر الشهادة.

إنّ المقياس الذي تعتمد عليه الشريعة الإسلامية هو النظر في مدى الانسجام بين شخص الشاهد، والقضية التي تتم الشهادة فيها. فالقضايا التي من شأنها أن تكون المرأة أكثر معرفة لها وعلاقة بها، تكون الأولوية بالشهادة فيها للمرأة، كمسائل الحضانة والرضاع والنسب ونحوها.. والأمور التي من شأنها أن يكون الرجل أكثر استيعاباً لها، تكون الأولوية بالشهادة فيها للرجل، كالشهادة على الجرائم وتحديد الجُناة، فإنّ الدقة في الحكم تقتضي ألا تُقبل شهادة امرأة انفردت بدعوى أنّها رأت أنّ فلاناً أشهر سكيناً وذبح هذا الذي يمتدّ وسط دمائه في الأرض، كما أنّ الدقة في الحكم تقتضي ألا تُقبل شهادة رجل ثبت أنّه مشبوب العاطفة رقيق القلب سريع التأثر بمشاهد العنف والإجرام، إذا انفرد وحده بهذه الدعوى، ومن المعلوم أنّه لا الرجولة بحدّ ذاتها حالت دون صحّة شهادته هنا، ولا الأنوثة بحدّ ذاتها هي التي حالت دون صحّة شهادتها هناك. إنّ المقياس في الحالين، بل في الأحوال كلّها مدى الانسجام الموجود بين حال الشاهد والقضية التي تحتاج إلى الشهادة فيها. وعندما يتبادل الرجل والمرأة الصفات التي تتعلق بموضوع الشهادة، فالأحكام التابعة لها هي الأخرى يتم التبادل فيها.

على أنّ هذا التفصيل إنّما يؤخذ به، عندما تكون الشهادة مستنداً لإصدار حكم. فأما عندما تكون الشهادة قرينة من قرائن التحقيق الذي يسبق النظر في الحكم، أي المحاكمة، عادةً، فلا يرد شيء من كلّ هذا التفصيل، بل تتفق الشريعة الإسلامية مع سائر القوانين الوضعية في قبول الشهادة من أي جهة صدرت، مادام القصد منها الاستئناس وتجميع القرائن في مجال التحقيق. وهذا ما يفوت كثيراً من الباحثين التنبه إليه.

ثالثاً: الخطأ الذي يتورط فيه كثير ممَن يقفون عند كلمة (قَوّامّون) في قوله تعالى: (الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّساءِ) (النساء/ 34). إنّهم يفهمون هذه الجملة القرآنية إنشاء، وهي إخبار وليست إنشاء. ويفهمون القوامة تسلطاً وهيمنة واستعلاء، وهي إنّما تعني كينونة المرأة في كنف الرجل وحمايته ورعايته.

أمّا بيان الخطأ في الفهم الأوّل، فهو أنّ الآية تكشف لنا عن واقع يعرفه علماء النفس والمجتمع قديماً وحديثاً، وتنشده المرأة في الرجل، كما يعرفه الرجل في المرأة. إنّ المرأة - طبقاً لما تؤكده نساء الشرق والغرب - تبحث في الرجل عن الشخصية التي تتفيأ ظلالها، وتعيش منها سعيدة في كنفه وحمايته.. وإليكم ما تقوله الطبيبة النفسانية والباحثة الاجتماعية الألمانية إستر فيلار: "إنّ الرجل الذي ابتغيه هو ذاك الذي يستطيع أن يكون قادراً على حمايتي، وهو لن يقدر على ذلك إلّا كان أطول مني قامة وأقوى بنية وأشدّ ذكاء.. إنّ الرجل الذي ابتغيه هو ذاك الذي استظل بقامته وأرفع عيني لمشاهدة وجهه".

إنّنا جميعاً لا نشك في أنّ أفراد الأسرة إذا شعروا في جنح ليل مظلم بلصّ يتسور الدار أو يعبث بمرتاج الباب، فإنّ الرجل هو الذي يهبّ ليذود عن الدار وأهلها، في حين أنّ الزوجة الأُم تحتمي بمنعته وقوّته وسطوته قابعة في زاوية مظلمة آمنة من الدار. وقد نجد ما يشذ عن هذه القاعدة ولكن الشذوذ ساقط دائماً عن الاعتبار.

فقول الله تعالى: (الرِّجالُ قَوّامَونَ عَلى النِّساء)، بيان منه عزّوجلّ لهذا الواقع المدروس والمرئي والمشاهد في تقلُّبات الحياة وعلى مسارح التمثيل وفي أشرطتها.. وليس إنشاء لحكم يفاجأ به الناس ويلصق عنوة بالمجتمع.

وأمّا الخطأ في الفهم الثاني لهذه الكلمة، فهو إصرارهم على أن يفهموا هذا الواقع الذي يصفه القرآن تسلطاً وتحكماً، ومعاملة فوقية. في حين أنّ الواقع الذي تتحدث عنه الآية ليس كذلك.

إنّ الذي يكشف عن جسامة هذا الخطأ، النصوص القرآنية والنبويّة الكثيرة التي تأمر الرجال وتوصيهم بنقيض ذلك تماماً. ولعلّكم جميعاً سمعتم حديث رسول الله (ص) "النساء شقائق الرجال ما أكرمهنّ إلّا كريم، وما أهانهنّ إلّا لئيم"، وأنّ في القرآن آية تقرر ما يسميه الفقهاء الولاية المتبادلة بين الرجل والمرأة، وهي (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) (التوبة/ 71)، وأنا لم أجد إلى الآن في أي من القوانين الوضعية المعمول بها اليوم هذا الذي يقرره القرآن من الولاية المتبادلة بين الرجل والمرأة، بحيث تتم ولاية من كلّ منهما على الآخر، ترقى بهما إلى مستوى من الندية في التعاون للنهوض بسائر شؤون الحياة.

والآن، دعوني أسأل الإخوة الذين يرون أنّ الثوب التكريمي الذي أسبغه الإسلام على المرأة في الماضي، لا يرقى إلى المستوى المطلوب لها في هذا العصر، عن المشروع الذي أعدّوه لاستكمال النقص، والذي يرون أنّه الأمثل لها والأكثر وفاء بحقّها، على أن يراعوا في ذلك شرطين اثنين:

الشرط الأوّل: ألا ينطوي شيء من مشروعهم الاستكمالي على استغلال أنوثة المرأة لأمر لا مصلحة لها فيه.

الشرط الثاني: ألا يكون نسيج مشروعهم هذا صورة للحال التي عليها المرأة في الغرب.

ومصدر ضرورة الأخذ بهذين الشرطين، أنّ بين الاهتمام بتكريم المرأة ورعاية حقوقها، وبين استغلال أنوثتها علاقة النقيض بالنقيض. ولاشك أنّ تغطية الثاني بالأوّل خداع مكشوف وممجوج.. كما أنّ اعتبار واقع المجتمعات الغربية النموذج الأمثل لتكريم المرأة ورعاية حقوقها، ليس أولى من اعتبار الشريعة الإسلامية هي النموذج الأمثل لذلك.. إنّنا لدى التحليل والبحث عن الحقيقة لابدّ أن نرفض هذه العصبية العمياء للذات، سواء كان خطر التميز فيها للشريعة الإسلامية أو لواقع المجتمعات الغربية.

ومادمنا في موقع الدراسة والنقد للقيمة التكريمية التي حققها الإسلام للمرأة، على الرغم من أنّنا مسلمون، فإنّ المنطق يدعو من باب أولى أن نكون في موقع الدراسة والنقد للقيمة التكريمية التي يراها الغرب من وجهة نظره للمرأة.

أما آن أن نشيح أبصارنا وبصائرنا عن الإسلام وما قد شرّعه بهذا الصدد، لنستسلم لما عليه الواقع الغربي بهذا الصدد ذاته، فإنّ الترجمة الوحيدة لهذا الموقف المهين، هي ما يمكن أن نعبر عنه بانطواء الشخصية العربية الإسلامية داخل جاذبية المركزية الغربية.

أعود فأسأل: ما هي النقائص التي ينبغي استكمالها، استيفاء لكامل حقوق المرأة في هذا العصر، مما فات الإسلام اعتماده والأخذ به؟.

- لقد ساوى الإسلام بين الرجل والمرأة في حق العمل وفي أجره، فليس للذكورة ولا للأنوثة دور في مشروعية العمل أو عدم مشروعيته. إنما المقياس محصور فيما ينطوي عليه العمل من خير أو شر للفرد والمجتمع، مع توافر شرط القدرة على إنجازه وإتقانه. ويراعى في ذلك سلّم الأولويات الذي هو أصل معمول به في تصنيف أهمية الأعمال لدى التعارض، في القوانين الوضعية كلها.

فضمن هذا النظام العام الذي يخضع له العمل في حكم الشريعة الإسلامية، يتساوى كل من الرجل والمرأة مع الآخر. ومن ثم فلن نجد عملاً أباحه الله للرجل وحرّمه على المرأة، ولا العكس، مادام مشروعاً في أصله ومادامت أهلية القيام به موفورة.. ترى ما الذي يمكن أن تضيفه مقتضيات العصر الجديد إلى هذا الحق بالنسبة إلى المرأة دون الرجل؟ ولماذا بالنسبة إلى المرأة دون الرجل، مادامت المساواة بينهما قائمة ومتحققة؟

- ولقد ساوى الإسلام بين الرجل والمرأة في حقّ القيام بالنهضة الثقافية والعلمية في المجتمع، بل الحقّ أنّه ساوى بينهما في ضرورة القيام بهذا الواجب.

فمن الثابت يقيناً أنّ الله جعل سبيل الناس كلّهم إلى معرفته سبيلاً واحداً، هو العلم، بكلّ أنواعه وتفرعاته، لا يستثنى منه إلّا ما كان داخلاً في معنى المخرقة والتدجيل، كالسحر، والكهانة والتنجيم. ومن ثمّ فقد كان سبيل العلم أقدس ما يسلكه الإنسان من سبيل.

ونظراً إلى أنّ كُلاً من الرجل والمرأة مكلّف بمعرفة حقيقة هذه الحياة الدنيا ومآلها وما وراءها، ليصل بذلك إلى معرفة الله والمهمة التي أقامه الله عليها، فقد كان كلّ منهما مكلّفاً بأن يجعل من العلم، بإطلاقه، سبيلاً إلى ذلك. فلن ترى في العلوم والمعارف كلّها ما هو مطلوب من الرجل ومحجوب عن المرأة أو العكس.

ولكن لابدّ هنا أيضاً من أن يؤخذ بعين الاعتبار سُلّم الأولويات في أصناف العلوم المتفاوتة في الأهمية، لدى تزاحمها على زمان أو مكان ضيّق لا يتسّع لها جميعاً. وهذا قرار منطقي يشكّل جامعاً مشتركاً لدى سائر العقلاء، في سائر الأزمنة والبقاع.

إذن، فلنسأل هنا أيضاً: ما الذي ينبغي أن تضيفه مقتضيات العصر الجديد إلى هذا الذي قرره الإسلام من حقّ، بل من وجوب القيام بالنهضة العلمية والثقافية، لكلّ من الرجل والمرأة؟ ما الذي ينبغي أن يضاف إلى قراره هذا في حقّ المرأة، ولماذا في حقّ المرأة خاصّة، مادامت التسوية في هذا الحقّ بينها وبين الرجل قائمة وثابتة؟

- ولقد ساوى الإسلام بين الرجل والمرأة في حقّ الأنشطة السياسية.. واعتقد أنّ عليَّ - وقد حدثتكم عن مشكلة التكرار في صدر حديثي هذا - ألا أكرس هذه المشكلة بدوري، وأُعيد على مسامعكم الحديث عن مظاهر وأنواع الأنشطة السياسية للمرأة المسلمة في التاريخ الإسلامي.

ولكني أذكركم بما هو مقرر في أحكام الشريعة الإسلامية، من المساواة التامة بين الرجل والمرأة في درجات الأنشطة السياسية، بدءاً من حقّ اختيار الحاكم وبيعته، إلى حقّ المديرين والوزراء.. فالمجال السياسي في سُلّم هذه الدرجات مفتح لكلّ من الرجل والمرأة على السواء، لا يراعى في ذلك إلّا شرط الأهلية التي ينبغي أن تتوفر في الرجل وفي المرأة. كما نصّ على ذلك الماوردي في كتابه "الأحكام السلطانية".

هذا مع ملاحظة أنّ الأنشطة السياسية كلّها داخل الدولة الإسلامية إنّما تدور في مجال الشؤون الإدارية والتنفيذية ومعالجة العلاقات الدولية، دون أن يعود إليها الحقّ في ممارسة أي سلطة تشريعية، ذلك لأنّ المجتمع الإسلامي خادم وحارس لشريعة الله، وليس مشرّعاً من دونه. غير أنّ مجلس الشورى يملك حقّ الاجتهاد فيما كان للاجتهاد مجال فيه، إن تحققت لأعضائه الأهلية لذلك، دون تفريق بين الذكور والإناث في ذلك.

وهذا معنى خلافة الإنسان عن الله في الأرض، الثابتة في قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة/ 30)، ولا يجادل في هذا إلّا مَن كان مُرتاباً أو جاحداً بالله، واعتقد أنّا لسنا من هذا الصدد في شيء.

فما الذي ينبغي أن تضيفه مقتضيات العصر الحديث من حقّ للمرأة دون الرجل في هذا المجال الآخر، مجال النشاط السياسي، مما قصّر فيه الإسلام ولم يتحدّث عنها بشأنها؟

اعتقد أنّ الإجابة هنا جاهزة، وهي أنّ الإسلام حجب عنها حقّ رئاسة الدولة.

وأقول: إنّ الإسلام وصف في هذا الأمر واقعاً أكثر من أن يبرم حكماً. وهو صادق ودقيق فيما وصف. إنّ التاريخ لم يشهد في أي عصر من العصور أو جيل من الأجيال إلى يومنا هذا أكثر من عدد أصابع اليد الواحدة من النساء، على أبعد تقدير، تبوأنَ مركز القيادة العليا في الحكم.. وإذا كان هذا الواقع يحمّل أصحابه مسؤولية، فإنّ الإسلام ليس أكثر من مرآة لهذا الواقع. على أنّ الفقهاء قرروا أنّ الوقائع والأحداث إذا اقتضت إسناد الرئاسة العليا أياً كان اسمها إلى المرأة، فإنّ سائر ما تتخذه من أحكام وقوانين ومراسيم تؤخذ بعين الاعتبار، وتكلّف الأُمّة بتنفيذها، ما لم يكن فيها ما يخالف أمراً مجمعاً عليه في الشريعة الإسلامية. وممن ذكر ذلك العز بن عبدالسلام - رحمه الله - في كتابه: قواعد الأحكام في مصالح الأنام.

وجملة القول إنّ هذه المسألة أيضاً، كالمسائل السالفة الأخرى، إنّما تدور على محور الأهلية لتبوء هذا المركز وجوداً وعدماً. وهو التفسير الوحيد للواقع التاريخي الذي لم يكن الإسلام إلّا مرآة أمينة له، كما ذكرت قبل قليل. فالذكورة والأنوثة، بحدّ ذاتهما، ليس لهما مدخل في هذا الأمر ولا غيره مما سلف بيانه سلباً ولا إيجاباً. وإنّي لأقول انطلاقاً من هذه الحقيقة: لو كنتُ أُمثل مرجعية فقهية رسمية في هذا العصر، ورأيت بين الرجال المرشحين للرئاسة العليا امرأة كأُم سليم زوجة حرام بن ملحان - رضي الله عنهما - لآثرتها في البيعة على كلّ الرجال الذين يتسابقون إلى الحكم في بلادنا العربية اليوم، ولأفتيت بذلك غير متذمم ولا آثم.

بقي أن أقول: إنّ الشريعة الإسلامية، إذ ساوت بين الرجل والمرأة في الواجبات والحقوق كلّها، ألزمت كلاً منهما بالآداب التي شرّعها الله عزّوجلّ في رسم العلاقات السارية بينهما. ومن المعلوم أنّه ليس من شأن هذه الآداب أن تنتقص شيئاً من أطراف تلك الحقوق والواجبات، كما أنّه ليس من حقّ هذه الثانية، أن تنسخ أو تهدر شيئاً من تلك الآداب. بل ينبغي أن يكون بينهما منتهى التكامل والانسجام.

وأخيراً.. إنّ السؤال الذي بقي بدون إجابة عنه، هو السؤال المتكرر الذي عرضته في غضون بحثي هذا، والذي يشكل اللازمة المتكررة التالية: ما المشروع المتكفّل بإضافة ما تقتضيه ظروف العصر الحديث من حقوق ومظاهر تكريم للمرأة، فاتت الشريعة الإسلامية ملاحظتها، مع ضرورة أخذ الشرطين اللذين ذكرتهما في صدر حديثي هذا بعين الاعتبار؟

ونظراً إلى أنّني لست صاحب هذا الادّعاء، ولا الدّاعي إلى هذا المشروع، فإنّ موقعي الذي أنا فيه، إنّما يقتضيني إلقاء السؤال، وانتظار الجواب.

 

المصدر: كتاب المرأة وتحولات عصر جديد

ارسال التعليق

Top