• ٢٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الوظيفة الحوارية للإعلام

أ. د. سعيد إسماعيل علي

الوظيفة الحوارية للإعلام

منذ القرن العشرين، ونحن نعيش تقدّماً مستمراً في عصر يمكن تسميته بعصر "الاتصال الجماهيري"، حيث أصبحت الصُّحف والراديو والتلفزيون والمجلات الرخيصة والسينما وكُتُب الجيب، من الأدوات الأساسية لنقل الحقيقة والخيال والمعلومات الجدية والترفيهية وأساليب الحياة وأنماطها في مختلف المجتمعات، ولقد ساعدت الثورة التكنولوجية في الإخراج أو التوزيع على جعل الاتصال ميسراً، لا يكلف غير القليل من الجهد والمال، ففي مطلع القرن العشرين، لم يكن العالم يعرف ثلاثاً من وسائل الاتصال الجماهرية المعروفة حاليّاً؛ مثل السينما والراديو والتلفزيون، وحتى الوسائل القديمة، مثل الصُّحف والمجلات الرخيصة، لم تكن قد وصلت بعد إلى الدرجة التي وصلت إليها في وقتنا الحاضر.

وقد كان يقال من قبل أنّ من أهم الخصائص المميزة للإعلام أنّه ذو اتجاه واحد غالباً، وقلّما يكون هناك طريق سهل أو سريع للقارئ أو المشاهد أو المستمع، لكي يرى أن يسأل أسئلة أو يتلقّى إيضاحات، إذا هو احتاج إليها.

لكن التطوّر المذهل الذي شهدته وسائل الاتصال في السنوات الأخيرة، غير من هذا، وأصبح بالإمكان عقد ندوات تذاع على قنوات التلفزيون أو عبر أثير الراديو يشارك فيها أطراف في مواقع متباينة، مهما كانت بينها المسافات، وأصبح بمقدور المستمع والمشاهد أن يشارك في التو واللحظة في الحوار الجاري، ومن ثمّ أصبح التلفزيون والراديو من أبرز الساحات التي تشهد حوارات مستمرة لا نقول يوميّاً، بل يكاد الإنسان لا يجد ساعة تمرّ إلّا ويري حواراً ما في إذاعة ما أو قناة ما.

وميزة أخرى في أجهزة الإعلام تجعلها أهم ساحة للحوار، أنّها تتضمن قسطاً كبيراً من الاختيار؛ فالوسيلة مثلاً، تختار الجمهور الذي ترغب في الوصول إليه عندما تتخصص في إشباع احتياجات نوعية معينة من هذا الجمهور؛ فالقنوات الدينية - مثلاً - تستهدف جمهوراً يتشوق إلى التثقف ثقافة إسلامية صحيحة، وإن كان من الممكن أن يشاهدها غير هذه النوعية من الجمهور، على الأقل من باب حبّ الاستطلاع، فلربما اقتنع بالرسالة المقصودة، فأصبح متابعاً بعد ذلك باستمرار أو أحياناً.. ومن ناحية أخرى، فإنّ جماهير المستقبلين يختارون من بين هذه الوسائل، فهم يقررون ما إذا كانوا سوف يشاهدون التلفزيون أو يقرأون كتاباً، أو صحيفة، وهم يختارون ما يشاءون من المضمون المتاح لهم فقد يشاهدون برنامجاً تلفزيونياً إخبارياً، أو قد يحوّلون مفتاح الجهاز إلى قناة أخرى، حيث يعرض برنامج ديني، كما أنّهم يختارون الأوقات التي يستخدمون فيها وسائل الإعلام.

ومن غير شك، فإنّ مثل هذه الميزات تجعل من الإعلام ساحة خطيرة لإدارة الحوارات أو متابعتها.

وعلى الرغم من أنّ مؤسسات التعليم مفترض فيها أن تنمي مختلف جوانب الشخصية، فإنّها في التطبيق العملي تكاد تركز جهدها في عملية نقل المعارف والمعلومات، وقليلاً ما توجه جهداً كبيراً لعملية تربوية واجتماعية على جانب خطير من الأهمية ألا وهي عملية اكتساب القيم، فمن المعروف أنّ القيم هي "موجهات" الإنسان في تفكيره وفي سلوكه، بل هي تكاد تشكّل مجموعة المعايير والمقاييس التي نحكم بها على الأمور.

والإعلام أكثر مناسبة. لاكتساب مثل هذه القيم، خاصّة من خلال البرامج التي يمكن أن تحمل توجيهاً غير مباشر، مثل الأعمال الدرامية، خاصّة وأنّ جمهور الإعلام المرئي والمسموع لا يقتصر فقط على مَن تحصّلوا على قدر من التعليم، بل هناك من الأُمّيين الذين ما زالوا محرومين من نعمة التعليم للأسف الشديد، يمكن لقناتي الراديو والتلفزيون أن تتعاملا معهم بالتربية والتوجيه والتعليم والدعوة.

لكن هذا في حدّ ذاته يقتضي تنمية مقدرة المواطنين على التعامل الذكي مع وسائل الإعلام، بحيث لا يتقبّلون كلّ ما تقدّمه لهم وسائل الدعاية، بل يتفاعلون معها بفكر ناضج واعٍ ناقد، وتنمية هذه القدرة أمر جدّاً خطير؛ لأنّها نوع من الرقابة الفردية التي يمارسها كلّ فرد فلا تتبلبل أفكاره، ومن ثمّ لا يتعطّل اشتراكه الفعّال في تطوير مجتمعه، ومما يزيد من أهمية تنمية هذه القدرة صعوبة الرقابة على بعض مواد الإعلام.

وتبدأ الخطوط الأولى لتنمية هذه القدرة في المرحلة الأولى من التعليم حيث يُدرّب الطالب على القراءة والاستماع والمشاهدة الواعية الناقدة، ثمّ يستمر الاهتمام بها على مستوى المراحل التعليمية، كما يجب الاهتمام بها - أيضاً - على مستوى الجمهور العام بتقديم مواد إعلامية تهدف إلى تنمية هذه القدرة وتغذيتها.

ويتيح الإعلام فُرصاً مذهلة "للتعارف الاجتماعي" بين جمهور متباعد الأطراف، قد لا يقدر لأفراده أن يتقابلوا أو ينتقلوا من أماكنهم، فيستمع المستمع المسلم أو المشاهد في بلد عربي مثل سوريا أو العراق، أو غيرهما، إلى مسلمين آخرين في أندونيسيا أو في أوربا أو في أمريكا، فالمسألة ليست مجرد حوار بين عقول، ولكنّه كذلك تعارف بين "شخصيات"، فضلاً عما يتم من تعارف بين مفكرين مسلمين ومفكرين وباحثين أجانب من غير المسلمين.

لكن لابدّ من الاعتراف بأنّ قيام الإعلام بدوره لا يتحقق بشكل آلي؛ حيث إنّ وسائل الإعلام تؤدي عملها في ضوء ظروف وقيود ومحددات بعينها؛ مثل النواحي التمويلية والحاجة لتأمينها، أحياناً بشروط معينة وفي ظل إملاءات بتبنّي توجهات بعينها أو المطالبة بتقديم تنازلات فكرية أو سياسية أو ثقافية أو غير ذلك، وهناك - أيضاً - عامل المنافسة القوية والشديدة التي لا تركن بالضرورة إلى اعتبارات موضوعية أن تلتزم بالحقيقة والدور التثقيفي، كما أنّ هناك عامل التسويق التجاري الذي بدوره يكون عليه مداهنة الاتجاهات المجتمعية السائدة وأذواق متلقين لا ترقى عادة إلى مستويات فكرية عُليا بل تلهث وراء أخبار "الإثارة" بأنواعها المختلفة والابتعاد عن ما هو مألوف والميل إلى غير المألوف من منطلق المقولة الشهيرة: "لو أنّ كلباً عضّ إنساناً فهذا ليس خبراً؛ لأنّه معتاد، لكن لو أنّ إنساناً عضّ كلباً، فهذا خبر؛ لأنّه غير معتاد".

كذلك فمما يمثل قيداً على دور وسائل الإعلام الطلبُ المتزايد على المادّة المرئية على حساب المادّة المسموعة أو المقروءة، وهي ظاهرة عالمية تكاد لا نجد لها استثناء، وما هو أكثر خطورة وجود تحيزات أيديولوجية لدى أصحاب وسيلة الإعلام ذاتها أو مديري التحرير فيها أو المحررين بها، وهذه العوامل أو القيود كثيراً ما تؤدي إلى تغطية قصيرة النظر أو ضيّقة الأفق أو أحادية الجانب أو نمطية أو متحيزة لأحداث تجري في دول أخرى لها ثقافات مختلفة.

 

المصدر: كتاب الحوار.. منهجاً وثقافةً

ارسال التعليق

Top