• ٣ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

فضل المسجد على الثقافة الإسلامية

علي حسن الصلاحي

فضل المسجد على الثقافة الإسلامية
◄إنَّ للمسجد على الثقافة الإسلامية فضلاً واسع المدى، فسيح الأرجاء، متعدِّد الجوانب، مختلف النواحي، فقد كان مبدأ للتعاليم الثقافية والتداريب الحربية، وكان معرضاً للفنون الإسلامية، ومجالاً للمباريات الأدبية، فلا غرابة إذا فصّلنا الحديث عنه، وأسهبنا القول فيه وتناولناه بالبحث والدرس، وبيّنا ماله من الأثر العظيم في الحضارة الإسلامية ومقومات الأخلاق الدينية.

لفظة (المسجد) مأخوذة من الفعل (سجد).

وللفعل (سجد) في الأُمّة العربية معانٍ متعددة جاءت بها اللغة قبل الإسلام ثمّ تطورّت في عهده وأخذت معنى إسلامياً جديداً.

جاء في لسان العرب أنّ مادة (سجد) تدل على الانحناء والتطامن إلى الأرض يقال: سجد الرجل إذا طأطأ رأسه وانحنى.

وفي الحديث: كان كسرى يسجد للطالع، أي يتطامن وينحني (والطالع هو السهم الذي جاوز الهدف من أعلاه) والمعنى أنّه كان يسلم لراميه ويستسلم هذا هو المعنى الحسي للمادة في أوّل استعمالها.

ثمّ انتقلت اللفظة إلى المعنى المعنوي، فأصبحت تدل على الخضوع والتذليل فكلّ من ذل وخضع لما أمر به فقد سجد، ومنه قوله تعالى: (يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ) (النحل/ 48)، أي خضعا متسخرة لما سخرت له.

ويستعمل أيضاً السجود بمعنى التحية، ومنه قوله تعالى في سورة يوسف: (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا) (يوسف/ 100)، أي سجود تحية لا عبادة.

والسجود بمعنى التطامن والتذلل عام في الإنسان والحيوان والجمادات، قال الراغب في مفرداته: السجود أصله التطامن والتذلل وهو ضربان: سجود اختيار وليس ذلك إلا للإنسان وبه يستحق الثواب نحو قوله تعالى: (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) (النجم/ 62)، أي تذللوا له.

وسجود تسخير وهو للإنسان والحيوان والنبات، وعلى ذلك قوله تعالى: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا) (الرَّعد/ 15)، وقوله: (يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ)، فهذا سجود تسخير وهو الدلالة الصامتة الناطقة المنبهة على كونها مخلوقة، وأنها خلق فاعل حكيم.

ثمّ أخذ (السجود) معنى شرعياً جديداً، وهو مخصوص في الشريعة بالركن المعروف من الصلاة الذي لا يتم إلا بوضع الجبهة والأنف واليدين والركبتين والرجلين على الأرض.

ومن هنا صح التعبير بالسجود عن الصلاة كما في قوله تعالى: (فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ) (ق/ 40)، أي أدبار الصلاة، ويسمون صلاة ألضحى سجود الضحى.

فالمسجد موضع السجود سواء أكان سجوداً شرعياً بوضع الجبهة على الأرض، أم سجوداً لغوياً بمعنى التذلل والتقديس، وخضوع العبادة على أي صورة كانت تلك العبادة والتقديس.

وقد جاءت لفظة (المسجد) مستعملة في القرآن والحديث في شأن من كانوا قبل الإسلام، للدلالة على موضع العبادة، على أيّة صورة كانت تلك العبادة، قال تعالى في سورة الكهف: (قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا) (الكهف/ 21).

وفي الحديث الذي رواه البخاري في كتاب الصلاة، وفيما رواه مسلم في كتاب المساجد، قد استعمل (المسجد) للدلالة على كنيسة بيزنطية. ففيما رواه البخاري "لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". وفيه أيضاً عن عائشة أنّ أم سلمة ذكرت لرسول الله (ص) كنيسة رأتها بأرض الحبشة، فذكرت له ما رأت فيها من الصور، فقال رسول الله (ص): "أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله".

أمّا ما رواه مسلم فهو أنّ رسول الله (ص) قال: "ألا وإنّ من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك".

ثمّ أصبحت كلمة (الجامع) نعتاً للمسجد، وإنما نعت بذلك لأنّه علامة الاجتماع، وما كانوا في الصدر يفردون كلمة (الجامع) وإنما كانوا تارة يقتصرون على كلمة (المسجد) وطوراً يصفونها فيقولون المسجد الجامع، وآونة يصفونها إلى الصفة فيقولون: (مسجد الجامع) ثمّ تجوز الناس بعد واقتصروا على الصفة، فقالوا المسجد الكبير وللذي تصلي فيه الجمعة وإن كان صغيراً الجامع لأنّه يجمع الناس لوقت معلوم.

وأوّل مسجد بني في الإسلام هو مسجد قباء، الذي يقال له مسجد التقوى، لقوله تعالى: (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) (التوبة/ 108).

بعد هذه المقدمة اللغوية التاريخية نأخذ في بيان فضل المسجد على الثقافة الإسلامية، مقتصرين في مقالنا هذا في عصر النبوة، فنقول: إنّ الغرض الأوّل الذي من أجله أنشئ المسجد بلا ريب عبادة الله كما قال تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ...) (النور/ 36-37).

ثمّ استخدام ليكون منتدى لجماعة المسلمين تقوّى به رابطتهم، وتتوثق فيه صلاتهم، فيستشارون فيما يهمهم من أمور دينهم، ويتباشرون فيما يعود بالخير على جماعتهم. فكانت تقام فيه صلاة الجماعة خمس مرات في اليوم، وكان (ص) يباشر بنفسه، حتى إنّه هم أن يحرق الدور على الذين لم يشهدوا معه الجماعات كما في الصحيحين.

ثمّ تقام فيه أيضاً صلاة الجماعة كلّ أسبوع، ثمّ صلاة العيد مرتين في العام، وهذه الاجتماعات إنما كانت تقام في أوّل عهدها في مسجد رئيس هو المسجد الجامع الذي يجتمع فيه أهل كلّ بلد.

فلما اتسعت الأمصار وازدحم الناس جاز عند بعض الأئمة أن تتعدد الجمعة.

وفي صلاة الجماعة تدريب على محاربة الظلم، وتعويد على القتال صفوفاً، قال الإمام أحمد، إنّ بلالاً يسوى الصفوف، ويضرب عواقبهم بالدرة، على أن ذكر الله في المساجد لم يكن قصراً على وقت أداء الصلاة، بل كان المسجد موطناً للذكر في كلِّ الأوقات.

ولما للمسجد من هذا الأثر الخطير في توثيق عرى الإخوة بين جماعة المسلمين والتوحيد في ميولهم. والتقريب بين غنيهم وفقيرهم، وإيلاف قويهم وضعيفهم حدثت حادثة مسجد الضرار.

ذلك أنّ إثني عشر رجلاً من المنافقين اتخذوا لهم مسجداً، حسداً وضراراً بالمسلمين، وتفريقاً لكلمتهم، واتخاذه منتدى للطعن على رسول الله فيه لتختلف الكلمة وتتشقق عصا الجماعة، فهو أشبه شيء بنادٍ للتآمر والإضرار.

طلبوا من رسول الله (ص) أن يفتتحه بالصلاة فيه، فهم (ص) أن يجيبهم إلى طلبهم، فأنزل الله تعالى: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ) (التوبة/ 107)، إلى قوله تعالى: (لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (التوبة/ 110)، فأمر عليه السلام بإحراقه وهدمه، وأن يتخذ محلاً تلقى فيه الكساسة والجيف ولذلك قال أصحاب مالك: لا يجوز أن يبنى مسجد إلى جنب مسجد لئلا يضر بأهل المسجد الأوّل، ويجب هدمه، والمنع من بنائه إلا أن تكون المحلة كبيرة، ولا يكتفي أهلها بمسجد واحد فيبنى الثاني.

ومن فضل المسجد أنّه كان يُتخذ مركزاً للثقافة الإسلامية في أوسع معانيها، واختلاف ضروبها، وذلك أمر طبيعي، لأنّ القراءة ولو أنها عرفت في الجزيرة العربية قبل الإسلام، فقد ذكر البلاذري في فصله المسمى (أمر الخطر): "دخل الإسلام وفي قريش سبعة عشر رجلاً كلّهم يكتب" غير أنّ هذا لم يكن عاماً حتى ظهور القرآن، فليست علاقة القرآن بالقراءة علاقة اشتقاق فقط، فهناك تسلسل وارتباط لا يستهان بهما.

فالباعث الأكبر إذن على نشر العلم كان دينياً، ولهذا كان طبيعياً أن تكون أماكن العبادة مدارس، وبيوت الله معاهدة، وأن يقوم رجال الدين بمهمة التعليم في حلقات ومجالس، فإنّ المدارس بمعناها الفني، لم تعرف إلا في القرن الرابع الهجري.

ذكر الحافظ الهيثمي في (مجمع الزوائد) عن قرة أنّ رسول الله (ص) كان إذا جلس جلس إليه أصحابه حلقاً حلقاً.

وقال أنس: كان الصحابة إذا صلوا الغداة، قعدوا حلقاً حلقاً يقرؤون في القرآن ويتعلمون الفرائض والسنن.

وقد بوب البخاري في صحيحه: "باب الحلق والجلوس في المسجد" أي جواز ذلك فيه، لتعلم العلم، وقراءة القرآن والذكر ونحو ذلك، وأما التحلق فيه، للتحدث في أمور الدنيا فغير جائز، وعليه يحمل حديث مسلم عن جابر "دخل رسول الله (ص) المسجد وهم حلق، فقال: ما لي أراكم عزين".

أخرج ابن ماجة في سننه عن عبدالله بن عمرو، قال: خرج رسول الله ذات يوم من بعض حجره، فدخل المسجد فإذا هو بحلقتين إحداهما يقرؤون القرآن ويدعون الله، والأخرى يتعلمون ويعلمون، فقال النبي (ص): كلّ على خير، هؤلاء يقرؤون القرآن ويدعون الله فإن شاء أعطاهم، وإن شاء منعهم، وهؤلاء يتعلمون ويعلمُون، وإنما بعثت معلماً فجلس معهم.

لما قدم وفد ثقيف على الرسول (ص) بعد غزوة تبوك سنة تسع، ضرب لهم قبة في ناحية المسجد ليسمعوا القرآن، ويروا الناس إذا صلوا، فيتأثروا بقراءتهم، ويحاكوهم في صلاتهم، وهذا خير أسلوب في التربية الخلقية، ونشر الثقافة الدينية.

ذكر أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه "مشكل الصحيحين": أنّ عبادة ابن السامت كان يعلم أهل الصفة الكتابة والقرآن. (وأهل الصفة هم فقراء المهاجرين ومن لم يكن له منهم منزل يسكنه، فكانوا يأوون إلى موضع مظلل من مسجد الرسول يسكنونه).

تقول دائرة المعارف الإسلامية: "لعل هذا هو الأصل في اتخاذ مساكن الطلبة في المدارس، لأنّ المساجد القديمة كانت تحوي مساكن لهم، والمدرسة إنما كانت على صورة المسجد مع زيادة الأدوات اللازمة للتعليم والطلبة".

روى في الصحيحين عن أبي واقد الليثي أنّ رسول الله (ص) بينما هو جالس في المسجد والناس معه، إذ أقبل نفر ثلاثة، فأقبل اثنان إلى رسول الله (ص) ذهب واحد، فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهبا، فلما فرغ رسول الله – أي مما كان مشتغلاً به من تعليم العلم – قال ألا أخبركم عن الثلاثة، ما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا وترك المزاحمة، فاستحيا الله منه، (أي جازاه بمثل فعله بأن رحمه ولم يعاقبه) وأما الثالث، فأعرض، فأعرض الله عنه (أي جازاه بأن غضب عليه).

على أنّ المسجد لم يكن وقفاً على الثقافة الدينية، وقصراً على التعاليم الإسلامية بل كان ميداناً للثقافة الأدبية.

أنشد كعب بن زهير رسول الله (ص) قصيدته (بانت سعاد) في مسجده بحضرته وحضرة أصحابه، وتوسل بها، فوصل إلى العفو عن عقابه، وحقن دمه بعد الإهدار، وأجازه (ص) بمائة من الإبل، وخلع عليه بردته.

وكان حسان بن ثابت ينشد رسول الله الشعر في المسجد فيسمعه منه، ويثنى عليه، فإنّ الأشعار إذا كانت مما تشتمل على الثناء على الله عزّ وجلّ، أو على رسوله (ص) أو الذب عنهما كما كان شعر حسان، أو كانت تتضمن الحث على الخير والوعظ والزهد في الدنيا والتقلل منها، فإنشادها في المساجد حسن.

وكما كان المسجد أيضاً ميداناً للتدريب العسكري والتمرين الحربي وكان مركزاً للقضاء بين الناس وتنفيذ العقوبات، بل كان كذلك يستخدم مستشفى للمرض وملجأ للمعوزين ومأوى للبائسين...

 

المصدر: مجلة الزهراء/ العدد الثاني لسنة 2003م

ارسال التعليق

Top