• ٢٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

مقاصد الشرع رعاية مصالح الخلق

سعيد بنسعيد العلوي

مقاصد الشرع رعاية مصالح الخلق

الاجتهاد هو إعمال العقل الفقهي في المشكلات والقضايا التي تطرحها الحياة العملية للمسلمين، مما لم توجد عليه أجوبة مباشرة في الكتاب أو في السنة، ولم يعرف عن المتقدمين من علماء الإسلام إجماع عليه. فهو إذن مما يستجد في تلك الحياة العملية، وهو مما تجابه به في هذه الأخيرة خضوعها الحتمي لمبدأ التحول وسنة التغير.
فالاجتهاد يصدر إذن عن التسليم بقدرة العقل البشري على تقديم الأجوبة الشرعية على الأسئلة المتجددة (أو "النوازل")؛ مؤكداً بذلك قدرة الشرع على مواكبة وملاحقة التطور الذي يخضع له الوجود البشري، كل ذلك شريطة أن يكون هذا العقل البشري عالماً بمبادئ المعرفة الشرعية وأسسها، متمكناً من طرقها ومناهجها على النحو الذي يحدده علماء "أصول الفقه" خاصة، والاجتهاد تسليم بقدرة العقل من جانب أول. وتوافر على المعرفة أو الخبرة "التقنية" الضرورية من جانب ثان. ولكن هذين الشرطين يظلان غير كافيين مع ذلك. ذلك أنّ الاجتهاد على الحقيقة لا يكون كذلك إلا متى كان طلباً لشيء آخر أكبر من ذلك وأعلى منه في الرتبة والقيمة: هو العمل على استكناه الأهداف البعيدة التي يحسب المجتهد أنّ الشرع يرومها من الشريعة في مجملها، ويريدها من الخلق فيما يصدره من أوامر ونواه.
وإذا كانت تلك الأهداف البعيدة تدق، ولاشك في ذلك، عن مدارك "العامة"، فإنّها لا تنكشف ل‍ "الخاصة" إلا ببذل المزيد من "المجهود" والسعي نحو "استفراغ الوسع" دون ملل أو تقصير. وعلماء الأصول، بل وعلماء الدين عامة، مجمعون على أن الله تعالى في غنى عن أفعال العباد وأنّه لا ينشد، بما تشتمل عليه الشريعة من أوامر ونواه، سوى مصالح الخلق.
بين مصالح الخلق والأهداف البعيدة التي يرومها الشرع من الشريعة ارتباط شديد وصلة، وعند علماء أصول الفقه توضيح في المسألة وتدقيق كافيان. والوقوع على الصلة بين مقاصد الشرع، من جهة أولى، ومصالح الخلق، من جهة ثانية، هو ما يجعل الاجتهاد يرقى إلى المرتبة العليا المطلوبة، تلك التي يكون المجتهد معها مطمئناً إلى أنّه "بذل الجهود" وأنّه قد "استفراغ الوسع".
على أنّ الأمر يثير بالنسبة للمجتهد إشكالاً جديداً، هو ذلك الذي يتعلق بالوجه الصحيح الذي يكون تأويل حفظ الكليات الخمس. وفي تاريخ الاجتهاد الإسلامي (أي في تاريخ اللحظات الكبرى الحرجة التي كانت تستوجب القول برأي الشرع في مستجدات الوجود السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي في الإسلام) ما يدل على وجود اختلاف في الرأي بين مجتهد يرى أنّ الاجتهاد الحق تجديد في الدين أو أنّه التجديد المحمود (بل المطلوب شرعاً) الذي قصده الحديث النبوي الكريم، حين قال: "إنّ الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمْرَ دينها"، وبين مجتهد آخر يرى أنّ الاجتهاد الصحيح تمسك بالدين في منظومته أولاً وأخيراً تأسياً بالحديث الآخر الذي يقول فيه النبي الكريم: "تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا ضال".
فالاجتهاد، عند أصحاب الرأي الأول، تجديد وطلب للمعنى الخفي الذي يقصده الشرع، والذي هو متجدد في روحه دوماً، وهو ما تملك الأمة، بضمانة عصمتها من الضلال، أن تقف على كنهه وتعمل بموجبه حين يكون من علماء الإسلام اجتهاد حق وإجماع على مقتضيات ذلك الاجتهاد. والاجتهاد عند دعاة الرأي الثاني، احتياط وتشدد، وبالتالي تمسك بالشرع في منظومة وحرص على التأسي بما فعله المتقدمون، دون مراعاة لتبدل الأزمنة واختلاف الظروف والملابسات.
ومهما يكن من شأن الكليات الخمس، ومن اعتبارها أركاناً يستند إليها المجتهد ويجد فيها القاعدة القارة التي يقف فوقها، فإنّ مقصد "حفظ الدين" يكون بمثابة المقصد الأسمى، أو الأم التي لا تبعد عنها المقاصد الأربعة الأخرى إلا لكي تعود إليها. وإذن فقد كان من الطبيعي، لا بل من الضروري، أن يثير هذا المقصد من الخلاف في الفهم ما لا يثيره غيره، وكان من المنطقي أن يحتدم النقاش بين العلماء في شأنه.
وبالجملة فقد كان ذلك الاختلاف، في تاريخ الاجتهاد الإسلامي، هو مدار القول في معنى "التجديد" و"البدعة"، وطرح الاختلاف في الصيغة الإشكالية التالية: كيف يكون للمجتهد، إذ ينظر في "النازلة"، أن يكون مجدداً مراعياً لسنة التطور في الحياة ولمبدأ لزوم مواكبة الشريعة لذلك التطور دون أن يقع مع ذلك في شرك البدعة، فيحدث في الدين ما ليس فيه وتكون منه إساءة بالغة إليه؟
وفي عالمنا الإسلامي اليوم، حيث يجد المرء أنّ كل المؤشرات والعلامات تحمل العلماء على الخوض، ضرورة، في جملة المسائل والقضايا التي ترجع إلى مقصد "حفظ الدين"، يكتسي الخلاف في المسألة صوراً جديدة فعلاً، مخالفة لكل الصور التي عرفها الوجود الإسلامي في عصوره المتقدمة، خلاف في فهم "تطبيق الشريعة" وفي التحرز والتأويل في فهم معنى "الحدود وإقامتها"، وخلاف في "الحوار" وفي دلالة "الشورى"، وخلاف يعود، في خاتمة المطاف، إلى تصور معنى "الدولة الإسلامية" أو دولة الإسلام الكفيلة بحماية الدين وحفظه، وبالتالي في إدراك المقصد الأول وفهمه. لكن المصلحة العليا للمسلمين كثيراً ما تتعرض للعسف والشطط في الفهم، بل كثيراً ما تؤول ضدها فيعود الحال إلى مفسدة (في الوجود السياسي والاجتماعي وفي تشويه صورة الإسلام والمسلمين).
ومتى كان الأمر على هذا النحو، فمعنى المصلحة ذاتها يصبح وجوباً لا ندباً، هو درء المفسدة ودفع شرورها وويلاتها.

المصدر: الإسلام وأسئلة الحاضر

ارسال التعليق

Top