• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

مذكرات مراهق

أسرة البلاغ

مذكرات مراهق

مقدّمـــة

لابدّ لنا قبل البدء بسرد الذكريات، من أن نصحِّح مفهوم المراهقة في ذهنك وذهن الكثير من المراهقين، أو حتّى من البالغين الذين تبدو المراهقة مشوّهة ومشوّشة في أذهانهم، فالبعض ينظر إليها على أنّها (سُبّة) أو (لعنة) أو (منقصة) أو (مرضاً)، حتى إذا أراد البعض أن يستخفّ من شخص غير متّزن، قال: "دعه، فإنّه مراهق"!

المراهق إنسانٌ سويّ في طريقه أشواط ومراحل يتعيّن عليه أن يقطعها، فهو ينتقل من مرحلة إلى مرحلة.. إنّه كالمسافر في القطار يغادر محطّةً ما إلى محطّةٍ ثانية وصولاً إلى مقصده، وما من مسافر إلا ويحتاج المرور بمحطّات.

والمراهق الذي لم يعد طفلاً، يترك طفولته بهدوء وبالتدريج، غير ناسٍ لأيّام لهوها ومتعتها وطمأنينتها وذكرياتها الجميلة.. إنّه كفتى يخطو نحو (الرّجل) وكفتاة نحو (المرأة).. وليس هناك مَن يتوقّف في محطّة واحدة إلا المتخلِّفين عقليّاً.

والمراهق – بعد ذلك – إنسانٌ نبيل، محبّ للخير، طيِّب القلب، رقيق المشاعر، مليء بالطاقة.. ينتقل من (منطقة باردة) إلى أخرى (ساخنة).. يحتاج خلال فترة الانتقال إلى التكيّف مع الأجواء الجديدة.

والمراهق – إذا التّشبيه – كالعضو الجديد في المؤسّسة القديمة.. لابدّ للأعضاء القدامى من أن يستقبلوه بحفاوة، فيحتضنوا فتوّته، ويأخذوا بيده ويُعلِّموه ما لم يعلم، ويرتقوا به على مراق السلّم..

ومن جانبه، يحاول أن يُثبت – لمن سبقه – وجوده وكفاءته وجدارته، بالانتماء إلى المؤسّسة العريقة، وبالتالي فترحيب المؤسّسة بالمراهق على أنّه واحد منها، واستعداد المراهق للإندكاك في المؤسّسة، سبب مهم من أسباب المراهقة السويّة، وبُشرى طيِّبة لبناء المجتمع الصالح.

إنّ أهل الجنّة عند الدخول إليها سيعيشون جوّاً جديداً عليهم.. هم حديثو عهد به، فلأوّل مرّة يتعاملون مع الملائكة وجهاً لوجهٍ، ولكنّ الملائكة – سكّان السّماء – سوف لن يتعالوا على أهل الجنّة – سكّان الأرض – بل يتلقّونهم بالتحيّة والسّلام ويشعروهم أنّهم أسرة واحدة، وأنّهم آمنون.

أخيراً، المراهق – على عكس المتصوّر – ليس مريضاً يحتاج إلى طبيب، بل هو إنسان قليل الخبرة والتجربة(*) يريد أن ينمِّي خبرته ويطوِّر تجربته حتى يعبر (مرحلة التحضير) إلى (مرحلة المشاركة).

وقد يبدو المراهق – كما يظهر من تصرّفاته – في غنى عن المساعدة لشعوره أنّه لم يعد طفلاً، وأنّه قادر على الاعتماد على نفسه، ولكنّه – في حقيقة الأمر – يحتاج إلى المساعدة (المطلوبة) لا (المفروضة).. لقد قويت قدماه وهو قادر على المشي لمسافات طويلة، فلا يحتاج إلى مَنْ يُمسِك بيده ليعلِّمه المشي، لكنّه يحتاج إلى مَن يُعرِّفه الطريق!

بمعنى: إنّه بحاجة إلى المُربِّي العطوف، والمُعلِّم المخلص، والمُستشار الرحيم، والنّاصح المُشفق، لا إلى الذي يصدر عليه الأوامر ويُلقي عليه النواهي، إنّه ليس لوحة أزرار يُضغط عليها ويُنتظر منها أن تُلبِّي الأوامر.

المراهق- باختصار شديد – (زميل) جديد لعالم الرِّجال، أو (زميلة) جديدة لعالم النِّساء، ومن حكمة الزملاء القدامى أن لا يُشعروا الزميل الجديد بالفوارق الكثيرة بينه وبينهم، لنتركه هو يشعر بها شخصياً يتحسّس مدى حاجته إلى استكمال نواقصه حتى يبلغ مرحلة العضوية الكاملة.

    حينما تبتعد عن مرحلة من مراحل عمرك، يمكنك أن تنظر إليها بشكل أوضح.. تكون عندها كأنّك تشاهد فيلماً عن شخص آخر وإن كان الفيلم من بطولتك أنت، وأقول آخر لأنّك وإن كان الفيلم من بطولتك أنت، وأقول آخر لأنّك تكون قد غادرته إلى مرحلة أخرى أكثر نضجاً، فيكون ذلك الذي كُنتَهُ في سنِّ الـ(12) وكأنّه غير الذي أصبحته في سن الـ(20)، وهكذا تتغيّر المراحل كما تتغيّر النظرة إلى الحياة بمقدار ما تكتسب فيها من علم ومعرفة وخبرات وتجارب وأخطاء وتصحيح لتلك الأخطاء.

    وقد تضحك اليوم ممّا كنتَ تراهُ بالأمس عدا أنّه (الحقيقة) وأنّه (الثابت) الذي لا يتغيّر.. وضحكة اليوم أو ضحكة النّضج التي تجعلك تتراجع أو تنقد بعض ما كنتَ تفعله حينها، هي (ضحكة الوقار) وليست ضحكة استخفافية؛ لأنّها تجعلك تبتسم للحاضر الذي يُمثِّلك وتحمد الله على أنّك لم تبقَ على ما أنتَ عليه من طفولة.

    تلك هي قصّتنا – نحن المراهقين – إلا الذي بقي يراوح في مكانه طويلاً، أي لم يستفد من سنوات عمره اللاحقة ليطوِّر (معدن المراهقة) إلى (صناعة إنسانية). فالحديد في باطن الأرض لو لم يُستخرج، ويؤخذ إلى المصاهر ليُصهر وتُصنع منه الآلات والأدوات النّافعة والمفيدة، يبقى كما هو حديد في مادّته الأوّلية حتى لو نامَ تحت الأرض سنين طويلة، فلابدّ لمادّتنا الأوّلية من أن تتطوّر.

    إنّ الأسرة والتعليم وعقل الإنسان نفسه، تساعده على أن لا يبقى (مادّة أوّلية)، بل تحوّل (حديده) و(ذهبه) و(ماسه) وسائر معادنه الثمينة والنفسية إلى منتجات حياتية نافعة، فكلّ مولود جديد.. ومراهق جديد.. وشاب جديد.. إضافة نوعيّة إلى الحياة.

    في مرحلة الدِّراسة المتوسِّطة، كان زملائي في الدراسة مراهقين مثلي، وعندما تكون في جوٍّ مقارب للجوّ الذي أنتَ فيه، فقد لا ينفعك ذلك كثيراً في تطوير مواهبك، فكلّما كان هناك مجال للمقارنة أو المنافسة بين (الحسن) وبين (السيِّئ) أو بين (الحسن) وبين (الأحسن)، كان ذلك عاملاً مساعداً على نموّك أكثر.

    تعلّمتُ ذلك من جدّتي التي كانت تحبّني كثيراً وأبادلها حبّاً بحبٍّ.. كانت تقول لي: صاحب مَن هو أكبر منك (عقلاً) وأكثر منك (أدباً)، حتى تتعلّم من الأوّل فكراً ومن الثاني سلوكاً.

    اليوم وقد عبرتُ مرحلة المراهقة أتذكّر كلامها وأستعيد علاقاتي فأرى أنّها على حقٍّ، فلقد كانت علاقاتي – إلى حدٍّ ما – مختارة.. اخترتُ الأكثر ذكاءً والأكثر أدباً، وقد لا يجتمعان في مراهق.. فكنتُ أصاحبُ هذا وأصاحبُ هذا، فماذا جنيتُ من ذلك؟

    كان (الأكثر ذكاءً) من حيث لا يعلم، يفيض عليَّ بذكائه من خلال لفتاته البديعة، وعقله اللّمّاح، وقدرته على التعامل، وعلى تحقيق الفوز، وتغلّبه على المشاكل، وموقعه المميّز بين الزملاء.

    وكان (الأكثر أدباً) يُساعدني على أن أتأدّب بأدبه، وأتخلّق بأخلاقه، وكان لابدّ أن أكون متأدِّباً معه على الأقل حتّى ينجذب إليَّ وأنجذب إليه، وقد أدّى ذلك إلى أتأدّب مع غيره.

    فالعدوى إيجابية أيضاً، وقد تأكّد لي بالفعل أنّ الطّبع يأخذ ويستلهم من الطّبع، ولا أقول (يسرق) لكراهيّتي للسّرقة، ولأنّ الأخذ هنا هو كاستنشاق الوردة الزكية.. هي (تفوح) وأنت (تستمتع).

    عذراً إليك قارئي الكريم..

    لقد سبقني القلم يشدّه الحنين إلى أيّام التلمذة، فلم يترك أن أعرِّفك بأسرتي.. كنّا في البيت (أربعة): أبي وأُمِّي وأنا وأختي التي تصغرني بعامين. كان أبي موظّفاً عاديّاً، وأُمِّي قد أنهت دراستها الإعدادية أو الثانوية، وعلى مقربة من بيتنا يقع بيت جدِّي وجدّتي لأبي، وليس بعيداً أيضاً بيت (خالي) الذي يكبرني بسبعة أعوام.

    هؤلاء كانوا يُشكِّلون أسرتي الكبيرة، وإنِّي لأحمد الله أن استفدتُ منهم جميعاً، فلهم الشكر موصولاً على ما كان لهم من فضلٍ عليَّ، لقد أحببنا بعضنا، والحبّ هو الذي جعلهم (يعطونني) بسخاء، وجعلني (آخذ) شاكراً.

    في فترة مراهقتي الأولى كنتُ دائم البحث عن ذاتي ولكن بطريقة مشوّشة وغير مدروسة، وكانت أُمِّي مُعلِّمة ناجحة بامتياز، حيث كانت تخلط نصائحها وتوصياتها لي بالكثير من المودّة والحنو، ومع ذلك فإنّني كنتُ مشاكساً وأعاندها لغرض العناد لمجرّد أنِّي أستشعر في نفسي أنّني أصبحتُ كبيراً، ولم تعد قواعد البيت وقوانينه تناسبني.

    ولأنّ عقل أمِّي وقلبها كبيران، كانت تتفهّم هذا التحوّل، فبدلاً من أن تشتري لي ملابس من السوق، راحت تسألني عمّا يعجبني من الملابس لأختارها على ذوقي، وربّما استأذنت للدّخول عليَّ في غرفتي، ولم تعد تضغط عليَّ للقيام بأعمال كانت تطلب منِّي فعلها عندما كنتُ صغيراً.

    وحينما تجدني معانداً في موضوعٍ ما، لا ترغمني عليه، بل كانت تقول لي كلمات من قبل: (أليسَ هذا أفضل؟!) (ما رأيك بهذا؟! ودعنا نؤجِّل هذا إلى وقتٍ آخر.. فكلّ شيء في أوانه جميل)..

    لم تكن (تدلِّلني) كانت (تعلِّمني) كيف أختار الصحيح بدليل أنّني كنتُ في تلك المرحلة مطلبيّاً (كثير الطلبات).. أرغب باقتناء أشياء حتى ولو لم تكن ضرورية، فلم تكن تُلبِّي لي جميع طلباتي، لم أكن أتفهّم أنّ راتب أو معاش أبي لا يُساعد على المصروفات الزائدة أو غير الضرورية.

    والآن حينما أتذكّر استجابتها لمطالبي _ المعقولة في نظرها – أعرف أنّها كانت توازن بين ما هو ضروري وما هو ليس كذلك، لا بالنسبة لامرأة ناضجة مثلها، بل لمراهق في أوّل حياته مثلي.

    كانت تربط بعض التلبيات بأمور تخصّني وتُشعرني بنوع من المكافأة، ففي الطلبات الكبيرة تؤجِّلها أو تُشرطها بشرط نجاحي آخر العام، وفي الصغيرة بأداء واجباتي وتكاليفي أو تعاوني داخل البيت. كانت تعلِّمني أنّ المكافأة لا تُعطى مجّاناً، وربّما ادّخرت لي بعض الطلبات لتعملها مفاجأة لي في عيد ميلادي مثلاً، وقد ترفض بعضها إذا قدّرت ضرره أو صرفه لي عن واجباتي.. وكنتُ أتضايق من ذلك، وأشكو لخالي من (بخل) أمِّي.

    غير أنّ خالي الذي كان بمثابة صديقي المُقرّب – على الرغم من تفاوت العمر بيننا – كان يحاول أن يفهمني بغير الطريقة التي تتحدّث أمِّي بها معي. ففي الوقت الذي كان يؤيِّد مواقفها ويُبرِّرها لي، كان يُقنعني بطريقة لبقة أن ليس من مصلحتي امتلاك كلّ شيء، لأنّه ليس هناك شخص يمتلك كل ما يريد، وأنّ (حرماني) من بعض الأشياء قد يجعل ما تحت يدي عزيزاً.. كان يقول لي: إنّ اقتناء الأشياء بأوقات سريعة واستبدالها بغيرها يُفقدها لذّتها، وحينما يجدني مصرّاً، يقول لي ملاطفاً: وهل تريد أن تشتري مخزن الألعاب كله؟!

    من خالي هذا تعلّمتُ أن لا أقارن نفسي بغيري والشبّان والمراهقين، فلكلِّ إنسان ظروفه وإمكاناته.. كنتُ أقول له: فلان وفلان من أصدقائي يملكون أكثر ممّا أملك، فكان يُقرِّب لي الفكرة بزملاء الفصل ويسألني: هل كلّهم متساوون؟ فأقول: لا، فيقول هكذا في الأمور الأخرى.

    وكان يُشدِّد اللّهجة أحياناً فيقول بأنِّي لستُ الوحيد في حياة أبويَّ.. هناك أختي.. وهناك احتياجات البيت الأساسية، لا تفكِّر بحاجاتك وتنسى حاجات الأسرة!

    في تلك الأيام بدأتُ أنفر كلمة (إفعل هذا) و(لا تفعل هذا)، فأشعر بأيِّ أمر حتى لو كان خفيفاً بأنّه ثقيل عليَّ، أو بالأحرى كنتُ أستثقله، وكان أبي يلاحظ ذلك، فقد بتّ أرفض الذهاب إلى بقّال المحلّة للتبضّع وشراء بعض المُستلزمات المنزلية، أو حتى الذهاب إلى زيارة بعض الأقرباء، أو أن يقول لي (قُم صلِّ).. أو اترك التلفاز واعمل واجباتك.. اقفل الكومبيوتر..

    ومع تغيّر طبعي واشتداد عنادي، تمكّن أبي أن يُغيِّر لهجته، فراح يلزمنا ببعض الأعمال ولكن بصورة غير مباشرة، كأن يقول لي: أنا اليوم مشغول، هل لك أن تساعد ماما في عمل كذا؟ أو سأشتري الأشياء الفلانيّة، فساعدني في شراء الباقي، وقد يصيغ طلبه على نحو الاستشارة: ما رأيك أن نفعل ذلك غداً، واستبدل (قُم صلِّ) بـ(لا تنسَ صلاتك يا ولدي).. كلّ ذلك أشعرني بأنّ أبي يعتبرني وكيله أو مساعده وأنّه يتعامل معي بمساواة، وعلى الرغم من التغيير في أسلوب أبي والتخفيف من وقع الطلبات المباشرة، كنتُ أتذمّر أحياناً حتى من هذا الأسلوب.

    وقد لاحظَ جدِّ ذلك، فقال لي – وكان يُحدِّثني دائماً على انفراد – إن أباكَ يستطيع أن يفعل بعض ما يأمركَ به بنفسه على الرغم من متاعبه ومشاغله، لكنّك أنتَ المستفيد من هذه التكاليف، إنّ أباكَ يريد أن يراكَ رجلاً معتمداً على نفسه.. أنتَ غداً ستكون صاحب أسرة، فإذا تعلّمتَ من الآن القيام ببعض واجباتها، ساعدكَ ذلك على أن تكون ربّ أسرة ناجحاً، وأحياناً لا يذهب بعيداً، بل يقول لي: إذا كنتَ تضجر من الطلبات والأوامر، فأنا أقترح عليكَ أن تعالج الأمر بالمبادرة.. اعرض على أبويك الخدمة، قُلْ منهما: هل عندكَ ما تحبّ أن أساعدك به، فذلك أطيب لنفسيهما وأهون على نفسك.

    أمّا إذا رآني أكثر الجدال في الموضوع فيحسمه بقوله: هل تريد أن يرضى الله عنك؟ فأجيبه: نعم، بالتأكيد، فيقول: المسألة بسيطة.. حاول أن تُرضي والديك!

    وهنا أحبّ أن أؤكِّد على ما قد يُساء فهمه، فأنا وإن كنتُ عنيداً، لكنني أستجيب للمنطق المُقنع، وما مجادلاتي إلا للتهرّب، وما كلمات جدِّي أو خالي بالتي تدخل من أذن فتخرج من الأخرى.. إنّها تتفاعل (تفاعلاً) كيمياوياً مع مشاعري، وكم من أمر رفضته ظاهرياً، لكنني كنتُ أستجيب له واقعياً عندما أتذكّر تلك الكلمات الصادرة عن قلوب تحبّني وتريد لي الخير.

    الآن أشعر بشعور قويّ، أنّنا حتّى وإن كبرنا نبقى بحاجة إلى مَن يأخذ بأيدينا، كما كنّا صغاراً، ولكن هذه المرّة بكلماته الطيِّبة وحنانه الفائض.

    ولأنّني شاب مراهق يعيش متطلّبات عصره، كنتُ كثيراً ما أصطدم بأمِّي وأبي في شؤون صغيرة لكنّها كانت تبدو في وقتها كبيرة، فأنا مثلاً من (أنصار الجديد) وامِّي وأبي من (أنصار القديم) أو هكذا كان يُخيّل إليَّ في وقتها.. كان لي ذوق خاص في اختيار ملابسي، وقصّة شعري، ومشترياتي، ومشاهداتي، وقراءاتي، وكانوا يرون بعض ما أفعله مخالفاً للذّوق العام، وكنتُ أرى أنه هو الذوق، ولم يكونا يجبراني على تغييره، إنّما يطرحان وجهة نظرهما، وربّما قسوتُ عليهما بالقول (أنتم عقليّة قديمة).. وكانا – للحقِّ – يستقبلان نقدي برحابة صدر، أو بعدم إظهار ردّ فعل سلبي إزاء ما أصنع.. كنتُ أدافع عن جديدي أو عن اختياري حتّى ولو كان مرفوضاً من قِبَلِهما، فقط بأنني كنتُ أتصور أنّ رفضهما من باب المناكدة لي والتّضييق على حرِّيتي.

    سمعني خالي ذات يوم وأنا أصف أبي بأنّه ذو عقلية قديمة، وحينما خلونا إلى بعضنا، قال لي بصراحته المعهودة: إذا كنتَ تعيش الآن عصرك، فحينما كان أبوكض في مثل عمرك كان يعيش عصره أيضاً، وفي غد قد تبدو في نظر إبنك أو بنتك من الماضي أو من الطِّراز القديم، واختلاف الأذواق أمر طبيعي بين المراهقين أنفسهم، ولكن إيّاك أن تعتبر أنّك باتِّباعك لإيقاع العصر أن عقلك أكبر من عقل أبيك.. إنّ استعمالك للكمبيوتر أو للأجهزة التقنية الحديثة، أو معرفتك بآخر إصدارات السينما العالمية لا يعني أنّك أفهم من أبيك، قد تفوق خبرتك في هذه الأشياء خبرته، لكن يجب أن تضع في بالكَ أنّ تجربة أبيكَ أنضج من تجربتك بأضعاف المرات، وإذا كنتَ (خرِّيج المدرسة) فهو (خرِّيج الحياة).. لقد أراد الله تعالى للأجيال أن (تتكامل) لا أن (تتصارع).

    وعندما أستوقفه لأضرب له بعض الأمثلة عن المفارقات التي كانت تحصل، كان يوافقني على بعضها، لكنه يقول لي في النهاية: كما أنّك لا تحبّ لأحدٍ أو لأبويكَ أن يجرحا مشاعرك.. افعل الشيء نفسه معهما.. حاول أن تقول كلمتك، ولكن حاذر أن تجرح مشاعرهما.. تأدّب حتى في نقدهما.

    ومنه (من خالي) تعلّمتُ أنّ كلمة (أفّ) القرآنية التي نهى الله تعالى عنها كأدنى درجات السوء في التعامل مع الوالدين، لا تحمل معنى التضجّر فقط، بل هي كل ما يُسيء إلى الوالدين من كلمات جارحة، بما في ذلك الاستخفاف بعقولهما أو الاستهانة بمعرفتهما.

    وبحقٍّ أقول لكم، أنّني – لم أكن في داخلي مسيئاً أو بذيئاً أو محبّاً لإثارة المشاكل – بل على العكس من ذلك، كنتُ طيِّب القلب، مُرهف المشاعر، بدليل أنّني عندما أعرف خطأي – فقد لا أعترف به – لكنني أندم على ما ارتكبه منه بالقول أو بالفعل، أي بالألفاظ أو التصرفات.. وبصدق أؤكِّد لكم، أنّ الكثير من أخطائي لم تكن مقصودة، لا أريد أن أبرِّرها، لكن تسرّعي هو الذي كان يوقعني فيها، وإذا كنتُ قد أدركتُ ذلك متأخِّراً، فإنّ أبواي كانا يعلمان ذلك جيِّداً، لأنّهما كانا لا يستقبلان أخطائي على أنّه (خطيئة)، وإن كنتُ أقرأ على وجوههما (سحابة) خفيفة طفيفة من ألم وحزن.

    كانت جدّتي – في أوقات هدوئي وصفائي – تقول لي: إنّ قلب أمّك وأبيك أكبر ممّا تتصوّر.. إنّهما لن يغضبا عليك، وإنّما يغضبان على تصرّفاتك الحمقاء، وثق إنّهما يسامحانك قبل أن تعتبذر إليهما، بل حتّى إذا لم تعتذر إليهما، وتقرِّب لي الصورة أكثر، فتقول: عندما كنتَ (تسقط) على الأرض وأنتَ طفل صغير لا تقوى قدماك على المشي.. كانت قلوبهما (تسقط) على الأرض معك، لأنّهما يعرفان إنّك صغير لم تُحسن المشي، وقد تؤلمك السّقطة..

    واليوم حينما (تسقط) في كلامك أو تصرّفاتك.. يُدركان أيضاً أنّك لم تتعلّم بعد (السّير) في الطريق الصحيح للحياة، ولذلك يعذرانك.. فقلب الوالدين – يا ولدي – ليس كقلب الولد.. إنّه أكثر رحمة وأشدّ شفقة.

    ثمّ تقرص أذني قرصة صغيرة، وتقول: سقطة واحدة أو سقطتان مغفورتان، ولكن إيّاك أن تكثر السقطات يا ولدي.. فقلبنا أمّك وأبيك لا يتحمّلا الصدمات خصوصاً التي تصدر عن الأبناء.

    ولابدّ لي هنا من أن أؤكِّد – من خلال ما تبيّن لي لاحقاً في دراساتي التربوية والنفسية – أنّ المراهق مستعدّ لقبول التربية على خلاف ما يتصوّره بعض الآباء، وإنّه يراعي متطلّبات الدِّين والأخلاق، فهو من أنصار الطهارة والصلاح، وهو يتحسّس – بدرجةٍ كبيرة – الفساد وسوء الخلق وعدم الإنصاف، وهو على درجة عالية من الفهم والذكاء، والدهاء – علاوة على ذلك – له قابلية على تصحيح أخطائه، كما أنّ قدرته الجسدية والعصبية تمكِّنه من إنجاز أعمال مهمّة في شتّى المجالات، وأمّا نزوعه إلى الاستقلالية، فيجعله يقوم بالأعمال الموكلة إليه بشيء من الإبداع والإبتكار.

    في المشهد الذي هو داخل حديقة البيت، كان الأب المسنّ يجلس هو وابنه على مصطبة في الحديقة، وكان الإبن منشغلاً يتصفّح جريدة بيده، وفي هذه الأثناء، حطّ عصفورٌ غريب الشِّكل واللون على غصن في الشجرة التي كانت تظلّ المصطبة، فسأل الأب ابنه: ما هذا؟ فالتفتَ الإبن لفتة سريعة، وقال: عصفور. ثمّ انتقل العصفور إلى غصنٍ آخر، فسأل الأب: ما هذا؟ فقال الإبن من دون أن يلتفت: عصفور.. قلت لكَ عصفور. وفي المرّة الثالثة حينما كرّر الأب السؤال – ويبدو أنّه كان يريد أن يلقي ابنه الصحيفة من يده ليحادثه – انفجر الإبن صائحاً بوجه أبيه: قلتُ لكَ إنّه عصـ...صـ.فووور! وضرب على الصحيفة بيده.

    لم يقول الأب شيئاً، لكنّه دخل إلى داخل الدّار وأخرج دفتراً وعاد إلى المصطبة، وفتح إحدى الصفحات، وقال لابنه إقرأ، فقرأ الشاب (المقطع التالي من مذكّرات أبيه) التي يخاطبه فيها:

    "عندما كنتَ صغيراً.. حطَّ عصفورٌ صغيرٌ على شجرةٍ في الحديقة، وسألتني: ما هذا؟ وكرّرتَ السؤال عشرات المرّات، وكنتُ في كلِّ مرّة أجيبك – بحبٍّ – إنّه عصفور"!!

    ولا يفوتني أن أضيف إلى (أسرتي) الغالية، معلِّم التربية الدينية الذي كنتُ أعتبرهُ أبي الثاني، فلقد كان مربِّياً فاضلاً وإنساناً صالحاً وقدوةً حسنة، لم يدخر وسعاً في تذكيرنا – نحن المراهقين – بضرورة البرّ بالوالدين، وكان يُردِّد دائماً: إنّما (جنّتك) و(نارك).. بيديهما مفتاح هذا ومفتاح تلك.. ولم يكن يطرح علينا ذلك بأسلوب الوعظ والإرشاد، كان يُقرِّبه إلينا بالأمثلة ووسائل الإيضاح، سواء بالقصص أو الأمثال أو المقارنات بين ما هو إيجابيّ وما هو سلبي، أو بالثواب العظيم الذي ينحصل عليه – في الدنيا والآخرة – إن كنّا أبناء صالحين.

    أتذكّر أنّه كان يُكرِّر علينا ونحن أبناء الـ(14) عاماً مقولته المهذّبة والطيِّبة والمشجِّعة: أنتم مزرعة جميلة لزراعة الحسنات، وبحر مملوء بالكنوز الثمينة.. أنتم أسرع من غيركم إلى كلِّ خير..

    وبالتأكيد لم يكن يُطيِّب خواطرنا، أو يخدِّر مشاعرنا، كان يريد أن يُبيِّن لنا بالدليل كيف أننا بطيب قلوبنا، ورقّة مشاعرنا، وصفاء نفوسنا، وعلوّ هممنا، وقلّة تلوّننا بذنوب وأخطاء الكبار، وميولنا الخيِّرة، يمكن أن نصنع (جنّة مصغّرة)!

    لم يكن يُحمِّلنا نحن المسؤولية أيضاً، فكان يقول: لا تقل أبي (فلّاح) لا يفهم إلا في الزراعة، فالزراعة (حقل تربوي). وأبوك أقدر من غيره على فهم أنّ (البذرة) تحتاج إلى (أرض خصبة) وإلى (رعاية وعناية وتعهّد وسقاية وحماية) حتّى تثمر وتؤتي أكلها.. وأنتَ (زراعةُ) أبيك!

    لا تقل أبي (راعٍ للغنم).. فرعي الغنم (حقل تربويّ).. يتعلّم فيه الراعي كيف يقود غنمه، وكيف يحميها من الذِّئب.. وأنتَ (رعيّةُ) أبيك!

    لا تقل أبي عاملٌ كاسب بسيط.. فالبساطة في الملبس والمأكل والمسكن والدخل القليل قد تخفي في داخلها نفساً كبيرة وتجربة ثريّة.. اقرأوا السّير الذاتية للعظماء من العلماء والأدباء والمبدعين والمصلحين والقادة، فستجدون إنّ آباء أكثرهم كانوا بسطاء، ومن بساطة حياتهم تعلّموا كيف يهتمّون بالبسطاء!

    وهنا أتوقّف لأشير إلى نقطة مهمّة، فنحن في مرحلة المراهقة قد لا نستمع إلى كلام ونصائح والدينا، على الرغم من حرصهما وصدقهما وإرادة الخير لنا، ربّما لشعورنا أنّهم من (جيل) ونحن من (جيل) آخر، ولكنّنا قد نستمع إلى نصيحة معلِّمنا، وهذا شيء إيجابي يدلّ على أنّنا لا نرفض النصيحة بالمطلق.

    وحتى شعور التفاوت بين جيلين لا أعتبره شعوراً سلبياً، بل يجب أن يؤخذ على أنّه أمر إيجابيّ، لأنّ اختلاف الأجيال يعني إمكانية (التبادل الثقافي) بين ما لدى كلّ جيل، فالآباء يعطوننا خبرتهم وحنكتهم وحكمتهم، وأنا أعطيكم ما في عصري من ميزات.. إنّ (الجذور) لا تستغني عن (الأغصان) كما أنّ الأغصان لا تستغني عن الجذور.

    لقد تحدّث معلِّم التربية الدينية ذات يوم عن هذا الموضوع، فقال: إنّ الذي يدرس حياة الخيول يعرف أنّ الخيول الأصيلة تنتمي إلى جيلٍ سابق، والخيول الهجينة أو المضرّبة تنتمي إلى جيلٍ لاحق، وكلّ منهما (جياد) والجواد من الجودة!!

    وأتذكّر أنّ أحد تلاميذ الفصل من المراهقين، كان يعاني من حياة أسرية صعبة، فأمّه قد توفِّيت منذ فترة، وأبوه منصرف عنه وعن أخوته في مباذله وملذّاته وانحرافاته، فسأل معلِّم التربية الدينية، قائلاً: كيف تريدني – يا أستاذ – أن أكون إنساناً صالحاً، وأبي يشرب الخمر ويلعب القمار ويرتكب الفواحش والمنكرات، أبي ليس فلاحاً يعرف (الزراعة)، ولا راعياً يفهم في (الرّعي)، ولا إنساناً بسيطاً يُحسن التصرّف معي ومع إخوتي المهملين؟!

    وأذكرُ أن من بين ما قاله الأستاذ: لا أريد أن أقدِّم لك نصيحة مجرّدة، سأذكر لك قصّتين وأترك لك أن تتعلّم منهما الدرس:

    كان (آزر) أبو إبراهيم (ع)(**)، صانعاً للأصنام، وعابداً لها، وكان يطلب من إبراهيم، وهو آنذاك فتى في سنّ الـ(13) أن يخرج ليبيع له مصنوعاته من الأصنام، فما كان من إبراهيم إلا أن يُعلِّق الخيوط في أعناق تلك الأصنام، ثمّ يجرّها على الأرض ويُنادي بين الناس: "مَن يشتري ما لا يضرّه ولا ينفعه"!! وزيادة في الاحتقار لها والإستهانة بها، كان يلقيها في الماء ليُغرقها، ويقول لها: تكلّمي!! مستخفّاً بذلك بعقول الذين يعبدونها!

    القصّة الثانية، قرأتها في إحدى المجلات عن فتى يتيم الأمّ في سنّ الـ(12) كان أبوه سكِّيراً، لا يُصلِّي ولا يُقيم للفرائض والعبادات وزناً، وكان هذا الفتى يذهب عند وقت الصلاة إلى المسجد القريب من المنزل ليُصلِّي فيه، وكان الأب على علم بذلك ولكنه لم يكن ليمنعه.

    وذات يوم، وبينما كان الفتى يتوضّأ، كان أبوه يطيل النظر إليه ولكن على استحياء، وقد انتبه الفتى إلى نظرات أبيه الحائرة، فاستغلّها فرصة ليرفع الحرج عنه، فقال له: ما رأيك يا أبتاه لو نذهب اليوم إلى الصلاة سويّةً؟!

    فقال الأب متلعثماً: ولكنّني لستُ طاهراً!!

    فقال الإبن: لا بأس، لدينا وقت، قم اغتسل وأنا بانتظارك.

    فكان إصطحاب الإبن أباه إلى المسجد خطوة أولى ومنعطفاً كبيراً في توبته وصلاحه.

    لقد تلقّفنا جميعاً الدرس، فلقد كان معلِّمنا – المربي الفاضل – يحمِّلنا – كما قلت – المسؤولية، ويقول: إنّ الإبن يمكن أن يكون قدوة لوالديه، كما أنّ الوالدين يمكن أن يكونا قدوة لأبنائهما.

    ومن حسن حظِّي أنّني وأختي قد حُظينا بوالدين مؤمنين يلتزمان بالعبادات، وكانا على خلق حسن، وكانت سيرتهما معنا ومع الناس تؤثِّر فينا – أنا وأختي – تأثيراً كبيراً، ولم تكن تلك شهادتنا – أنا وأختي – بهما فقط، فكثيراً ما كنتُ أسمع من الجيران والأقرباء كلمات المدح والثناء بحقِّهما، وأنّهما ربّيا فأحسنا التربية، وكنتُ أسعد بسماع كلمة: رحم الله والديك، إذ قدّمت لأحد الناس خدمة. ونظراً لما كان يتمتّع به أبواي من سمعة حسنة لدى الجيران، كنتُ أخشى أن أرتكب خطأ يلومونني عليه، أو ينتقدونني بالقول: ما هكذا الظنُّ بأُمِّك وأبيك.

    ولقد حدّثت أحد أصدقائي المقرّبين والمخلصين بهذا الأمر، وكان حبيباً إلى نفسي، حتى أنّني كنتُ أعتبره أخاً لم تلده أمِّي، لأنّه على جانب من التهذيب والخلق العالي، عفيف اللِّسان لطيف المعشر، حسن السلوك، فكان خُلقه الحميد يجذبني إليه، وربّما وجد هو فيَّ الشيء نفسه.. قال لي: إنّ الخشية من الناس عند ارتكاب الخطأ شيء جيِّد، وهو يُعبِّر عن نوع من الحياة المحبّب، لأنّه يحفظك ويحرسك من ارتكاب الأخطاء علناً وعلى مرأى ومسمع من الناس، وقد سمعتُ من إمام المسجد القريب منّا أنّه يقول: إنّ ذلك يُنمِّي حالة الإحساس بالخشية من الله فيما إذا التفت الإنسان إلى أنّ الخشية من الجار الصالح يمكن أن تتطوّر إلى الخشية من الله الذي لا يغيب عنه شيء، وهو معنا أينما كنّا.

    كلامُ صاحبي هذا شجّعني أن أصطحبه إلى المسجد للتعرّف على إمام الجامع والإستفادة من بعض المسائل الحيوية التي كان يطرحها، وبما أنّ حضور الفتيان والشبّان كان لافتاً في ذلك المجلس، تحدّث ذات مرة عن مشاكل الشباب المراهقين، وكان حديثاً جريئاً أسمعه لأوّل مرّة من عالِم دين.

    بعد انتهاء المحاضرة وانصراف الناس، قال لي صديقي: تعالَ نسأل الشّيخ عن بعض ما كان يدور في خلدنا، وكانت علاقة صاحبي بعالِم الدِّين في ذلك المسجد وثيقة بحيث لا يتحرّج أن يطرح عليه أسئلته بصراحة شديدة، فبادره بالسؤال: شيخنا، ما رأي الدِّين بالغريزة الجنسية؟

    فتحدّث الشيخ بلغةٍ واضحةٍ ولطيفةٍ ومؤدّبةٍ عن اهتمام الإسلام بهذه الغريزة التي يتحدّث عنها بعض المراهقين بشكل شهواني مُعيب ومُهين، وكان ممّا قاله:

    لم يخلق الله تعالى غريزة في داخلنا إلا وقد أعدّ لها ما يلبِّيها، فما دامَ هناك (جوع) لابدّ أن يكون هناك (طعام)، وما دام هناك (ذكر) يحتاج إلى (الأنثى) فلابدّ أن تكون هناك (أنثى) تحتاج إلى (الذّكر)، حتى تتوازن الحياة وتستقيم وتعمر بالبناء والإبداع. ومن هنا كان الميل إلى الجنس الآخر سبباً في الكثير من الإبداعات، وليس هناك غريزة تتحرّك لغرض الإشباع فقط، فالجائع يأكل ليحصل على الطاقة، والشاب يتزوّج ليُنشئ أسرة، ولا مانع – في الأثناء – أن يستلذّ الجائع بالطعام، ويستمتع الشاب أو الفتاة بالزواج.

    ثمّ تحدّث عن الدافع الجنسي وأهمّيته في الحياة بطريقة مختلفة عمّا كان يدور بيننا نحن المراهقين في السّرّ وفي الغرف المغلقة، فقال:

    إنّ الميل إلى الجنس نعمة من نِعَم الله تعالى على كلا الجنسين، فلو انعدم هذا الميل، لما اهتمّ الشاب ببناء شخصيّته الإجتماعية، وتطوير حياته المعيشية. ولما فكّر أن ينعم بظلال أسرة سعيدة، ولما اهتمّت الفتاة ببناء شخصيّتها التربوية لتكون زوجة صالحة وأمّاً صالحة، ولذلك يمكن القول بأنّ الميل إلى الجنس الآخر يقضي – إلى حدٍّ كبير – على أنانية الإنسان وحبِّه لذاته، لأنّه يجعله يفكِّر في تكوين أولى وأهم نواة إجتماعية وهي (الأسرة).

    كلام الشيخ الواعي عن طبيعة العلاقة الجنسية وأثرها في حياتنا شجّعني على أن أطرح عليه سؤالاً مباشراً، فجمعتُ كل أطراف شجاعتي، وقلتُ له، شيخنا، وما رأي الدِّين بالعلاقة بين الجنسين قبل الزواج؟ وقد أفهمه صديقه أنّ مُرادي علاقة الحبّ وما قد يستتبعها من إحتكاكات؟

    قال الشيخ: اختصر لك الجواب بنقطتين:

    الأولى: إنّ الله تعالى حصر تلبية الغرائز – الجنسية وغير الجنسية – بالمباحات، ولم يسمح لنا أن نُلبِّي أو نُشبع غرائزنا بالحرام، أي الممنوع شرعاً، ولو قارنت بين العلاقة الجنسية الشرعية (الزواج) وبين العلاقات الجنسية غير الشرعية، لرأيت أنّ إيجابيات الأولى أكثر من إيجابيّات الثانية، وأنّ سلبيات الثانية تفوق سلبيات الأولى.

    فالحرام يؤدِّي إلى ضياع النسل وتفشِّي الأمراض وتفكّك الأسرة وفساد المجتمع، ولذا لم يُحرِّم الله شيئاً إلا وكانت فيه مضرّة ومفسدة.

    ومعنى أنّك إنسان مسلم أسلمتَ أمركَ لله، أي عاهدته على الالتزام بتعاليم دينه، فعليكَ أن تحترم هذا العهد، كما أنك لن تجد عاقلاً يختار الأكثر سلبية وأقلّ إيجابيّة.. فما إرادة الله (الصلاح) وما عداه (الفساد).

    الثانية: إنّ كل فتاة أو امرأة أجنبية عني (أي ليست أمّاً أو أختاً أو عمّةً أو خالة) هي أختي في الإسلام، أعاملها بكل احترام كما أعامل أختي، فكما لا أريد لأحد أن يتعدّى على أختي بالسوء، فكذلك الآخرون لا يريدون أن يتعدّى أحد على أخواتهم وبناتهم بالسوء، أي أنّ الدِّين في الوقت الذي يمنعك من أن تعتدي على عفاف فتاة ما، يكون قد عمّ حكمه بالتحذير والمنع على جميع الفتيان والشبان المسلمين، فتكون أختك وأخوات الآخرين قد تمتّعن بالحصانة، باحترام كل طرف حدود العفاف مع الطرف الثاني.

    ولمّا تكاثرت أسئلتنا في هذا المحور، قال إمام المسجد: كنتُ شابّاً مثلكم وعانيتُ ما تُعانون، لكنّ الذين ربّوني – وأحسنوا تربيتي – أشاروا عليَّ بنقطتين:

    الأولى: أن أضع سلّماً بالأولويّات، فكنتُ أقدِّم (الأهمّ) على (المهمّ)، فكانت دراستي ونجاحي وبناء شخصيتي بناءً محترماً تأتي في المقدّمة.

    الثانية: لم أقترب من الشجرة المحرّمة، فكما تعلمون فإن الله لم يقل لآدم وحوّاء (ع) (لا تأكلا) من هذه الشجرة، بل قال: (لا تقربا) هذه الشجرة، فعلمتُ أنّ الاقتراب من المُثيرات الجنسية يعني وقوعي في المحرّمات، فحاولتُ – جهدي – أن لا أكون قريباً منها، وقد ساعدني ذلك كثيراً على الوفاء بالتزامي في النقطة الأولى.

    ولمّا سمع خالي – بعد ذلك – بزيارتي إلى المسجد وما جرى من حديثٍ مع شيخه، سُرّ بذلك سروراً كبيراً، وكان من طبيعته إذا رأى منِّي عملاً حسناً، امتدحني عليه، وأثنى على مبادرتي إليه، كما أنّه إذا رأى منِّي ما يُعيبني لا يسكت عن محادثتي بشأنه بأسلوبه اللطيف الذي كان يفتتحه دائماً بقوله: أنتَ تعرف كم أحبّك.. وكم أتمنّى الخير لك، بل وأرجو أن تكون قدوة حسنة لأصدقائك، ثمّ يدخل في صُلب الموضوع مدحاً أو نقداً، ولقد أفادتني دراستي بعد ذلك أنّ حاجة المراهق إلى (الإحسان) في أسلوب اللطف في التعامل معه، تساوي حاجته إلى (الإستحسان) فيما يصدر من لطف أو خير منه.

    ومن الجدير بالذِّكر، أنّ (خالي) كان قد أضاف إلى ما قاله شيخ المسجد في العلاقة الجنسية مع الآخر، أنّ شخصيّتي كمراهق في طور التشكل والنموّ، ولذلك فقد أقطع في شيء على أنّه (نهائي) أو (حاسم)، ولا أكون أكثر من قاطف الثمرة قبل أوان نضوجها، وضربَ لي مثلاً بقوله: كما لو رأيتَ فتاة مراهقة أعجبتك، وقلت هذه هي زوجة المستقبل، أو شريكة الحياة، ولكنّك بعد أن تتخطّى تلك المرحلة، تجد أنّ انجذابك إليها كان شكليّاً فقط، وأنّك تحتاج إلى إمرأة تحمل (جمال الروح) و(جمال العقل) والتدبير إلى جانب جمال الشكل والمظهر.

    وكذلك الفتاة المراهقة قد تنجذب إلى شابّ عريض المنكبين مفتول العضلات، وتتصوّر أنّ الرجولة هي هذه، ولكنها قد تُدرك في وقتٍ لاحق أنّ الرجولة هي (المروءة) حتى ولو كان الرجل أو الشاب نحيفاً. ثمّ أكّد لي أننا كلّما تمهّلنا وأعطينا فرصة إضافية لاختياراتنا حتى (تختمر)، فإنّها ستكون أنضج، وأقلّ احتمالاً للندم والفسخ والتراجع.

    في تلك الفترة أيضاً، كنتُ أحبّ أن أخرج مع بعض أصدقائي في رحلات بعيدة عن البيت، ولقد رآني جدِّي أجادل أبي وألحّ عليه بأن يمنحني ثقة أكبر، فلم أعد طفلاً صغيراً، وأنّه يحقّ لي أن أغيب عن البيت أو أتأخر في العودة إليه، أو أن أسافر مع أصدقائي إلى حيث أشاء، وكان يوضِّح لي أنّ ثقته بي كبيرة، لكنه لا يمكن أن يثق بالآخرين بنفس الدرجة، وضربَ لي مثلاً، قال:

    إنّ الأب أو الأُمّ مثل مدرِّب فريق كرة القدم، فهو يُقدِّم التعليمات والتوجيهات والتوصيات ويُراعي بعض الإحتمالات، ثمّ يُراقب ذلك من خلال التمرينات والتحضيرات والإستعدادات، ولكنه لا يضمن التزام اللاعبين بتعليماته مئة بالمئة، لأنّ هناك فريقاً آخر يلعب على الساحة وله أيضاً تعليماته وتوجيهاته.

    وعلى الرغم من أنّ أبي كان مُحقّاً في مخاوفه، لكنني لم أتفهّمها جيِّداً، واعتبرتُ أنّه يضيِّق عليَّ في حرِّيتي، وأنّ بعض الشبّان المراهقين الذين أعرفهم أكثر حرِّية مني لأنّ آباءهم – وهذا تصوّر لا يستند إلى دليل – يثقون بهم أكثر من ثقة أبي بي.

    في زيارتي التالية لبيت جدِّي، حدّثني جدِّي، قائلاً: يا حبيبي، لا يمكن الطيران من العشّ، فحتى حينما يكون للطائر جناحان، فإنّه يحتاج إلى أُمّه لتعلِّمه الطيران، ألم ترَ أنّ المصانع والمعامل لا تُدخِل العامل الجديد إلى الورشة مباشرةً، بل لابدّ من فترة تدريب يقضيها على يدي عامل ممارس ومدرِّب قديم، ثمّ يراقبه ويصحّح أخطاءه حتى يصل إلى مرحلة الاعتماد على النفس.

    ثمّ أضاف وعيناه تلمعان بابتسامة مُحبّة من وراء زجاج نظارته: إنّ الاستقلالية التي تتحدّث عنها (نسبيّة).. فليس فينا إنسان (مستقلّ تماماً)، فأنا في هذا العمر لا أزال أحتاج إلى جدّتك في بعض الأمور، كما هي تحتاجني في بعض الشؤون، وقد تُصحِّح لي أخطائي وأصحِّح لها أخطاءها.

    وهنا نقلتُ لجدِّي مقولةً كنتُ متأثِّراً بها، وهي أنّ الثمرة إذا نضجت سقطت عن الشجرة، فعلّق عليها جدِّي بقوله: يبدو أنّك – يا ولدي – لم تقرأ المقولة جيِّداً، إنّهم يقولون (الثمرة الناضجة) وهذا صحيح، أمّا (ثمرتنا) وقد وضع يده على رأسي ليعنيني بما يقول، فهي في أوّل النضوج، ومتى ما نضجت واكتمل نموّها، فلكلِّ حادثٍ.. إنّك الآن أشبه بـ(سائق تحت التدريب).. صحيح أنّ مقود السيارة بيدك، ويمكنك أن تتّجه بالسيارة إلى المكان المحدد، لكنك لا يصحّ أن تقول لمعلِّم السياقة أو القيادة الذي يجلس إلى جانبك: إنّك تُقيِّد حرِّيتي، إنّه هناك ليُعلِّمك كيف تستخدم حرِّيتك بشكل صحيح، فهو يريد أن يتأكّد من مهارتك وسلامة قيادتك للسيّارة في الشوارع الداخلية والفرعية، قبل أن ينطلق بك في الخطِّ السريع والطرق الخارجية، وما لم يطمئن إلى أنّك استوفيتَ شروط القيادة، فإنّه لا يعطيك (الرّخصة)!

    وعلى الرّغم من أنّ كلام جدِّي كان مُقنعاً إلى حدٍّ كبير، لكنني لم أرد حينها أن أقتنع، لأني أتصوّر أنني قادر على سياقة السيارة وقيادتها في الطرق الخارجية بمُفردي.

    وذات مرّة، وفيما كان معلِّم التربية الدينية يُحدِّثنا عن كيفية التخلص من أخطائنا واجتناب عاداتنا السيِّئة، أشار إلى ضرورة أن نتشاور مع الأكبر والأصغر منّا، وأنّ الاستشارة تعني أن نجمع عقلاً مع عقل حتى ينضج الرّأي، فانبريتُ له قائلاً: مشكلتي يا أستاذ أنّني دائم التمسّك برأيي، لأنني أشعر بأنّني دائماً على حقٍّ.. وهنا صاحَ أكثر التلاميذ: كلّنا مثلك.

    عندما أخرج المعلِّم عليه ورقيّة من جيبه وطلبَ إلى طالبينِ منّا أن يأتيا إلى مقدّمة الصفّ، فأوقف أحد الطابين أمام وجه العملة، والآخر خلفها وهو ممسِك بها من طرفها، وسأل الأوّل: ماذا ترى؟ قال: وجه العملة والصورة التي عليها، فقال له: أنتَ على حقّ! ثمّ سأل الثاني: وأنتَ ماذا ترى؟ فقال: خلف العملة والكتابة التي عليها. فقال له: وأنتَ على حقٍّ أيضاً!

    ثمّ غيّر مكانهما، فغيّرا شهاداتهما، وقال لهما أيضاً: أنتما على حقٍّ، وكان مثاله واضحاً لا يحتاج إلى شرح، فما أراه بعيني هو الحقّ، وما يراهُ الآخر بعينه هو الحقّ، ولو كنتُ مكانه لرأيتُ ما يرى، والعكس صحيح، ولذلك فإنّ الحقيقة تكتمل بالنظر للموضوع من جميع الوجوه.

    بعد هذا المثال التوضيحي، كنتُ إذا أردتُ أن أكوِّن فكرة عن شيء، أو أتّخذ قراراً، أو أقيِّم شخصاً، أتذكّر نموذج العملة الورقية، فإذا عرفت شيئاً أو جانباً، قلت: حسناً هذا وجه، فما هو الوجه الآخر؟ وبذلك تكتمل الصورة لديَّ.

    ولأنني كنتُ أحبّ الأمثال التقريبية، كان كلّ من حولي يعرف ذلك، فكانوا كما لاحظتم من سير المذكّرات يوصلون الفكرة إليَّ بأسلوب المقال، ولا أنس أيضاً المثال الذي ضربهُ لي خالي عندما اشتركتُ في مسابقة مدرسيّة، ولم أكن الأوّل فيها، وكنتُ أمنِّي نفسي بالبطولة، فلمّا رآني خالي آسفاً حزيناً، قال: إنّ البطولة التي تشاهدها في الأقلام ليست دائماً فردية، فهناك (البطل) وهناك(المشارك في البطولة)، لقد شاركتَ في البطولة، وهذا بحدِّ ذاته شيء جيِّد، فطيّبَ بمثاله الجميل خاطري.

    وعلى ذكر البطولة والبطل، فإنّ معلِّم التربية الدينية كثيراً ما كان يقصّ علينا قصص أبطال الإسلام، ويقول إنّهم ليسوا فقط أولئك الذين أنجزوا إنجازاتٍ باهرةٍ في ميادين الفتح والجهاد، بل حتى أولئك الذين أصلحوا مفاسد العالم، وعمّروا الحياة بالمنافع والمفيد من أعمالهم، وأحسنوا للناس فيما قدّموا من خدمات، تُذكر فتُشكر، وبما أثروا المكتبة الإسلامية بعقولهم الجبّارة.. فكلّ هؤلاء أبطال، ثمّ يغمزنا بقوله: لا أبطال (السّوبر ستار)..

    ويختم: إنّ البطولة في ساحاتِ الله واسعة وكثيرة وأضواؤها لا تنطفئ، وأوسمتها لا تصدأ، فإذا كنتم تحبّون تقليد الأبطال ونيل التفوّق، فشاركوا في البطولة التي تُرضي الله ولا تموت بموتكم.. كونوا الصالحين ومع الصالحين.

    

    - على هامش المُذكّرات:

    إنّ الدليل الذي كان يتّخذه المسافرون في الصحراء أيام زمان ليقود القافلة إلى مأمنها أو هدفها الذي تقصده، يعتمد في اختيار أقصر وأنسب وآمن الطرق لخبرته بالطريق وتفرعاته ومتاعبه، ولم تتوقّف صلاحية العمل بالدليل على الرغم من تطوّر الحياة، فما زال الدليل السياحي يرافق السياح ليُعرِّفهم ما يجهلون، ويدلّهم على ما لا يعرفونه لوحدهم.

    ولعلّ (خارطة الطريق) التي التي تستخرج اليوم من (النت) للإستدلال على الطريق غير المطروقة سابقاً، كل ذلك يدل دلالة واضحة على أنّ الذي يغترّ بقدميه، أو بمقود سيارته أو غروره به المسالك الجديدة أو الصعبة قد يسير على غير الطريق، فلا تزيده كثرة السير إلا بُعْداً.

    عندما كنتُ مراهقاً.. أخذ بيدي الذي عرّفتكم عليهم والذين مَن الله تعالى عليَّ بهم، وهم أُمِّي وأبي وخالي وأُستاذي وإمام مسجدي وصديقي المُخلص، ولا يُعدَم أحدكم (ناصحاً) أو (مُرشداً) أو (دليلاً) أو (مُربِّياً مخلصاً)، إن هو أراد أن يقطع الطريق بسلام.

    واعلموا أنّ للشيطان مع كل فئة من الناس لغة، ولغته مع المراهقين، أنتم قادرون على السير في الطريق لوحدكم، فما حاجتكم إلى الدليل، فإذا سمعتم إلى نصيحته، وهو غاشّ ليس بناصح، فإنّه سيكون هو دليلكم، ومَن كان الشيطان دليله، فلن ينتهي به إلّا إلى النار.

    "وآخر دعوانا أن الحمد للهِ ربّ العالمين"

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

- الهامش:

(*) عندما نقول عن إنسان بأنّه قليل الخبرة والتجربة، فإنّنا لا ننتقص من قدرته ولا ننال من شخصيّته ولا نجرح كرامته، فكلّ الخبرة كانوا في البداية قليلي الخبرة، وكلّ المجرِّبين كانوا في أوّل حياتهم ناقصي التجربة، وأبونا آدم (ع) كان في البداية قليل الخبرة والتجربة، ولذلك خدعه الشيطان، فليس العيب في قلّة الخبرة ونقص التجربة، بل العيب أن لا نزيد في خبرتنا ولا نستكمل نقص تجربتنا بالمزيد من التعامل والتفاعل مع الحياة.

(**) وقيل: لم يكن أباه، بل كان عمّه، ولكن إبراهيم نشأ عنده، لذا كان يُناديه بنداء الأب.

ارسال التعليق

Top