• ٢٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

أثر العقيدة في تكوين الحضارة

محمد رجاء حنفي عبدالمتجلي

أثر العقيدة في تكوين الحضارة
إنّ العقيدة هي الحجر الأساسي الذي لا يمكن أن تقوم أي نهضة بدونه، ولا يمكن لحضارة مهما كان نوعها أن تنبني إلا عليه. والعقيدة وحدها هي التي تحكم العالم، وتنقله من طور إلى طور، ومن مرحلة إلى مرحلة، وهي التي تتصرف في الحياة البشرية أفراداً وأمماً، وتملي عليهم سلوكهم، وتؤثر في أوضاعهم، وترفعهم إلى ذروة المجد. إنّ النور الذي كان يستضيء به أقدم إنسان على وجه الأرض هو نفسه النور الذي نستضيء به في عصرنا هذا الذي نعيش فيه، وهو الذي سيستضيء به آخر إنسان على ظهر الأرض، فالغذاء هو الغذاء، والنسيم هو النسيم، وعناصر البناء هي عناصر البناء في كلِّ زمان ومكان، وعناصر التخريب هي عناصر التخريب في كلِّ زمان ومكان، فالتفاعل الطبيعي للعالم البشري وإن كان يمسها من حيث الشكلية إلا أنّه لا يمسها من حيث الجوهرية. والعامل الوحيد الذي نجحت به حضارة العرب الإسلامية هو العامل الذي قامت به وعليه جميع الحضارات البشرية، وهو "العقيدة والإيمان"، فـ"العقيدة والإيمان" معناهما: الحبّ الصادق، والدوران حول الشيء الذي نعتقده ونؤمن به، وإيثارنا له على كلِّ شيء سواه، وأن نفني فيه ونحن مستبشرون مسرورون مستمتعون بذلك الفناء. فإذا اجتمعت الأُمّة على مثل تلك العقيدة، وكانت العقيدة والإيمان مركزين على مبادئ معينة، وأهداف محددة، بلغت ما تصبو إليه من آمال، وحققت ما ترجوه من أهداف، ونجحت في مسيرتها، مهما كانت العقبات التي تصادفها، ومهما طال بها الطريق. والعقيدة التي ارتكزت عليها حضارتنا الأولى هي: عقيدة الإسلام، والإيمان بالرسول الأعظم محمد بن عبدالله (ص)، وبما جاء به من الحقِّ من عند المولى تبارك وتعالى، وإلا فمن هم العرب قبل الإسلام؟.. وما قيمتهم في العالم قبل بعثة رسول الله (ص)؟. لقد أتى على العرب حين من الدهر لم يكونوا فيه شيئاً مذكوراً، خاصة في القرن التي سبقت بزوغ فجر الرسالة العظمى، لقد كانوا عبارة عن طائفتين: الأولى: طائفة هائمة داخل صحراء الجزيرة العربية، شريعتها شريعة الغاب، ليس لها قانون رادع، ولا نظام جامع، تقتل أولادها خوفاً من الفقر، وتئد بناتها خشية العار. الثانية: طائفة استقرت في أطراف الجزيرة العربية، خاضعة للملوك "الفرس" و"الروم"، مستعبدون في الأرض، تتحصن بهم الدولة الفارسية والدولة الرومية من هجمات أبناء جنسهم في الصحراء، ويستغلونهم في حروبهم مع أعدائهم. ولقد ظلوا على تلك الحال حتى جاء المصطفى (ص) وأفرغ في قلوبهم عقيدة راسخة واضحة، وحدت شتاتهم، وألفت بين قلوبهم، وجعلتهم أمة واحدة، وأزالت ما بينهم من الفرقة، ومحت ما كان بينهم من الخصومات، وجعلتهم اخواناً متحابين بعد أن كانوا على شفا حفرة من النار، وجعلتهم كثرة بعد أن كانوا قلة: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (الأنفال/ 26)، وجعلتهم أمة وسطاً، فكانوا خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالله. إنّ عقيدة الإيمان بالله واليوم الآخر هي التي أثرت في سلوكهم، وحولت عاداتهم وتقاليدهم، وسيطرت غاية السيطرة على تفكيرهم وطريقة معيشتهم، فنقلتهم مما كانوا عليه إلى قيادة أمم كثيرة على جانب كبير من التقدم والحضارة. ولقد نجح المصطفى (ص) في تمكين هذه العقيدة في نفوسهم، وأعدهم بها للقيام بدورهم العظيم في توجيه العالم، بعد معركة مريرة اتسمت بالقوة والعنف، واستمرت مدة ثلاث وعشرين سنة.   اعتماد التكوين الحضاري على العقيدة: إنّ التكوين الحضاري يعتمد كلّ الاعتماد على العقيدة الواضحة المركزة، وهو مفتقر بالذات إلى الجانب الروحي من العقيدة افتقار إلى الجانب المادي منها، وذلك لأنّ الحضارة الإسلامية قد برهنت على قدرتها على الصمود المعجز، والتحدي الخالد ضد كلّ الأعاصير والعواصف، والأطوار التاريخية الناتجة عن التفاعلات الزمنية والمكانية، فهي لا تزال خالدة، ومتوثبة للنهوض والسيطرة على جميع التأثيرات، رغم كلّ ما تلقته من مهاجمات ومؤامرات، وعراقيل اعترضت طريق مسيرتها طيلة أربعة عشر قرناً من الزمان مضت. والتكوين الحضاري لا يثمر الثمرة المطلوبة منه، ولا يؤدي إلى الغرض المنشود إذا ارتكز على العقيدة المادية وحدها، هذا واضح في الحضارة الأوروبية الحديثة التي نعيش في ظلها، فهذه الحضارة نتيجة حتمية لتطور العالم وتفاعله الطبيعي المتسلسل منذ القدم، وهي نتيجة لما كان سائداً في "أوروبا" قروناً عديدة من ضغط الكنيسة، وانحراف القيم، واختلال التوازن الاقتصادي بين الأفراد والطبقات، بسبب الظلم الواقع من النظم الإقطاعية، فكان من الطبيعي أن يقع رد فعل قوي، وتنفجر الطاقات الكامنة المكبوتة لتحطيم الأغلال التي كانت تقيدها، فوقع التحرر والانطلاق، واتجهت تلك الشعوب إلى محاولات جدية وعميقة للتخلص من سيطرة الكنيسة، وإحلال نظم وقيم مستحدثة محل النظم القديمة. ولقد أدت تلك المحاولات وتلك التطورات إلى إيجاد نظامين، وإلى تبدل كامل في الأوضاع، وتطورت وسائل المعيشة بسبب ذلك تطوراً فجائياً، وحلت الآلة محل الأيدي العاملة، والصناعات المريحة محل الأعمال البدائية، ودارت رحى الحرب بين النظامين، وما زالت دائرة في قسوة وعنف، فسيطر الرعب والخوف على العالم عندما أخذ التسابق في انتاج وسائل التدمير يسير موازياً للتسابق في وسائل التعمير، وكان من نتيجة ذلك أن تحطمت الأعصاب وتنغص العيش، ولم يستطع الإنسان أن يستلذ العيش في هذه المدينة التي أثمرتها جهوده العريقة في القدم، وأخذ يبحث عن السعادة وعن حياة أفضل كما كان يبحث عنها أجداده الأوائل في المغاور والكهوف. إنّ العقيدة هي الأساس الوحيد للتطورات البشرية بأجمعها، وكلّ الأنظمة المختلفة بما فيها من نزعات متطرفة أو غير متطرفة لا تزال تدفع بالبشرية إلى باعث لها، ولا باعث لها إلا العقيدة والإيمان. اننّا لا نؤمن إلا بالعقيدة الإسلامية والإيمان بالله، إذ هما كلّ شيء في هذه الحياة، ونجاح العقيدة متوقف على أمرين اثنين: 1-    مقدار عمق العقيدة وقوتها. 2-    مقدار وضوحها وصلاحيتها للبقاء. فالعقيدة الضعيفة مهما كانت صالحة للبقاء لا تؤتي ثمرتها المرجوة منها ولا تعمل شيئاً في الحياة، والعقيدة القوية المؤثرة التي تحرك وتوجه، وتفيض حيوية ونشاطاً إذا خلت من عناصر الصلاحية والبقاء فلا تلبث أن تتبخر كما تتبخر المياه بفعل الحرارة الشديدة، والعقيدة الخاوية من عناصر الصلاحية والبقاء انّما هي زبد أجوف لا يلبث أن يتلاشى، يقول المولى تبارك وتعالى: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ) (الرعد/ 17)، ويقول عزّ وجلّ: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ) (إبراهيم/ 24-26). لقد عبر القرآن الكريم – على عادته – عن العقيدة أو المبدأ بالكلمة، وشخص المثل تشخيصاً حسياً، بحيث يستقر في الأذهان، ويرتقي إلى الدرجة العليا من العمق والاستقرار، فقد ضرب مثلاً واضحاً للعقيدتين: فمثل العقيدة الصالحة بالشجرة الطيبة الثابتة أصولها والباسقة فروعها، بحيث يستحيل على العواصف والأعاصير اقتلاعها، ومثل للعقيدة الخبيثة بالشجرة الخبيثة، التي لا تحميها عروق ضاربة في الأرض، ولا فروع في السماء، فعلى مقدار نوع العقيدة التي نختارها لأنفسنا، وعلى مقدار قوتها فينا واحتضاننا لها، وعلى مقدار صلاحيتها للبقاء يكون نجاحنا في بناء وتشييد حضارتنا الإسلامية العظيمة، ولن يستقيم أمر هذا العالم إلا بالعقيدة الإسلامية، والإيمان بالله تبارك وتعالى.   العقيدة في الإسلام: العقيدة في الإسلام: التوحيد الذي دعا إليه المرسلون، ذلك التوحيد الذي لا يلتبس بالوثنية، ولا يقر الأوهام والخرافات، ولا ينافي الفطرة، توحيد قوامه وحدانية المولى تبارك وتعالى والإيمان به، والتصديق بالرسالة التي بعث بها المصطفى (ص)، هذه الرسالة التي حددها الله عزّ وجلّ في قوله الكريم: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ) (آل عمران/ 19). لقد جاءت الأديان السماوية كلها بفكرة التوحيد، ولا يستطيع أي إنسان كائناً من كان أن يقول بغير ذلك، إلا أنّ هذه الفكرة ما لبثت أن تبدلت وتغيرت، وقد توصل البعض من الفلاسفة إلى فكرة الوحدانية، غير أنّ هذه الفكرة لم يعترف بها من جانب العقل الإنساني العام، ولذلك ظلت فكرة فلسفية، وظل الناس من حولها يدينون بالوثنية. وكانت فكرة الوحدانية موجودة في بعض الديانات القديمة، الا أنّها اختلطت بالوثنية، وصورت بمظاهر الطبيعة، وعندما جاء الإسلام جعل للوحدانية شكلاً ثابتاً، وعقيدة قوية راسخة. والإيمان بالله عزّ وجلّ يستلزم الإيمان برسله – عليهم الصلاة والسلام – وملائكته، وكتبه، وباليوم الآخر، لأنّ المولى تبارك وتعالى أرسل الرسل لهداية الناس إلى الحقّ وإلى الصراط المستقيم، يقول عزّ وجلّ: (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ) (فاطر/ 24). ومتى رسخت عقيدة التوحيد في القلوب واستقرت في النفوس، أصبح أهلها قادرون على عمل أيّ شيء ومواجهة أيّ شيء، لأنّهم بذلك يكونون أصحاب نفوس أبية، يأبون الذل والهوان، لأنّهم متصلون بالخالق جلّ شأنه، يلتمسون منه العون، ويستمدون منه العزة والكرامة، رهبان بالليل وفرسان بالنهار، لا يخافون في الحقّ لومة لائم، ويستمسكون بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، وهم لا يعترفون بوجود واسطة بين المخلوق وخالقه في العبادة أو الدعاء. والإسلام إذ يؤكد عقيدة التوحيد ويدعو إليها يؤكد حرية العقيدة، ويعلن في اصرار ووضوح رفضه للتعصب الديني بشتى صوره ومظاهره، يقول الحقّ جلّ وعلا: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (البقرة/ 256)، ويقول عزّ وجلّ: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (يونس/ 99). وقد اتخذ الإسلام السماحة شعاراً له بدل التعصب، وجعل حرية الاعتقاد وحرية العمل حقاً على المسلمين لأصحاب الديانات الأخرى، الذين يعيشون بينهم في المجتمع الإسلامي، فالمسلم يؤمن بجميع الأنبياء والمرسلين، وبجميع الكتب المنزلة.   المصدر: مجلة هدي الإسلام/ العدد الأوّل لسنة 1983م

ارسال التعليق

Top