• ٢٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الفن القصصي عند العرب قبل الإسلام

د.فالح الربيعي

الفن القصصي عند العرب قبل الإسلام

قبل كل شيء لابدّ أن نذكر أنّ (القصة) هي من نوع الآداب الإنسانية العالمية الموجودة عند جميع الأُمم والشعوب التي كانت تعاصرهم قبل الإسلام، وخصوصاً تلك الشعوب التي كانت تتمتع بحظ وافر من التمدن والحضارة كالروم والفرس.

وبما أنّ القرآن الكريم قد خصص مساحة واسعة من سوره للحديث عن أخبار الأُمم السابقة، وبما أنّه اعتمد الأسلوب القصصي وعول عليه كثيراً في تحقيق أهدافه، فليس من المعقول – إذن – أن يكون العرب في ذلك العصر جاهلين لهذا النوع من الأدب، وليس من المعقول أن يخاطبهم القرآن بأسلوب يجهلونه ولا يحملون عنه أية فكرة وخلفية مسبقة، بل إنّ اهتمام القرآن الكريم بالأسلوب القصصي يدل دلالة واضحة على موافقة هذا الأسلوب لميول العرب وطبائعهم المجبولة على حب الاستماع إلى القصص والأخبار التاريخية، كما تروي لنا ذلك كتب التاريخ التي أكدت على ولع العرب الشديد بسماع الحكايات والأخبار في مجالس سمرها وأنديتها الليلية. وعلى هذا يمكننا أن نقرر وبكل اطمئنان أنّ العرب كانوا يعرفون ويتداولون الفن القصصي فيما بينهم، وأنّ القرآن الكريم وافق في أسلوبه القصصي في الدعوة القرآنية هذه النزعة التي جُبل عليها العرب من حب ورغبة في استماع القصص والأخبار. ومع ذلك فإنّ اهتمام العرب بـ(الفن القصصي) لا يعني مطلقاً أنهم قد تفوقوا في هذا الفن على الشعوب الأخرى – كما نرى ذلك في الشعر –، بل إنّ الفن القصصي نجده عندهم في شكله البسيط البدائي على شكل أخبار وأساطير وروايات و(أيام)[1] وأمثال وقصص مضمنة في الشعر... وما إلى ذلك من أشكال ومظاهر بسيطة للقصة لم ترتق إلى مستوى (الملامح) و(الأدب التمثيلي) الذي نجده عند الشعوب المتحضرة. ولعل الميزة الأساسية التي تميز القصة العربية قبل الإسلام من غيرها من القصص، واقعيتها وتقريريتها وخلوها النسبي من الخيال والمبالغات (اللّهمّ إلا إذا استثنينا الأساطير) وعدم ارتفاعها إلى مستوى (الملاحم)؛ أي القصص الطويلة التي تدور أحداثها حول محور واحد يشكل عادة شخصية إنسانية خارقة تنسج حولها الأساطير والمبالغات، وتنسب إليها الأعمال الخارقة، مثل ملحمة (الشاهنامه) عند الفرس، وملحمة (الإلياذة) عند اليونان. ومن مظاهر اهتمام العرب بالقصة وجود ظاهرة (الأمثال) عندهم على نطاق واسع، فمن المعلوم أنّ الأمثال مبنية على حوادث وقصص كانت السبب في صدورها وجريانها على ألسنة الناس، فلكل مثل قصة خاصة به مثل قولهم: "وافق شيء طبقة" و"قطعت جهيزة قول كل خطيب" و"الصيف ضيعت اللبن"[2]. ومن المظاهر الأخرى لاهتماماتهم القصصية حرصهم الشديد على جمع ورواية الأخبار والحكايات المتعلقة بأيامهم وحروبهم وحوادثهم المهمة والوقائع الطريفة التي كانت تحدث بين الحين والآخر ويشتهر أمر ما بين الناس إلى حد روايتها والتندر بها، مثل قصة (الزباء)، وقصة (زرقاء اليمامة)، وقصة المنخل اليشكري مع المتجردة زوجة النعمان... إلخ. وقد كان العرب بالإضافة إلى ذلك يختزنون في ذاكرتهم شيئاً من قصص وأخبار الأمم الماضية والأنبياء، مثل الأخبار الواردة عن لقمان الحكيم، وقصة عاد وثمود، وقصة النبي إبراهيم وإسماعيل (ع)، وإن كانت هذه القصص والأخبار ناقصة أو محرفة في بعض المواضع. وظاهرة وجود القصص الخرافية والأسطورية كانت منتشرة بين العرب قبل الإسلام على نطاق واسع، والخرافة والأسطورة هما في الحقيقة تعبير من الإنسان عن ضعفه وعجزه إزاء مظاهر القوة والغموض المحيطة به، فيحاول أن ينسج الخرافات والأساطير حول تلك المظاهر نتيجة لعدم قدرته على كشف غموضها وأسرارها إن كانت مظاهر مجهولة، أو نتيجة لإحساسه بالضعف والعجز حيالها فتبيح له مخيلته أن يخترع حولها الأوهام والمبالغات في محاولة لاستعطافها واسترضائها. ونتيجة لإحساس الإنسان العربي بالضعف والعجز وهو يعيش في صحرائه الفسيحة الملغومة بعوامل الموت والفناء والانقراض حيث الشمس بضيائها المحرق اللاهب، والرمال بزحفها المستمر نحوه، وحيث شحة الماء، والتنازع من أجل البقاء، والصراعات والتناحرات المستمرة المتصلة التي كانت تبدو لا نهاية لها لولا بزوغ نور الإسلام على هذه الأرض. كل تلك العوامل التي كانت تشدد وتعمق إحساس العربي بالضعف والعجز إزاء طبيعته القاسية، كانت في الحقيقة الأرضية المناسبة لظهور الخرافات والأساطير، ولذلك فلا عجب أن نرى شيوع هذا اللون من القصص بين العرب قبل الإسلام. وقد كان قسم من هذه الأساطير ما هو عربي خالص لا أثر فيه من الثقافات الأخرى للأُمم المجاورة كالخرافات والأساطير التي يشكل (الجن) و(الغيلان) و(الشياطين) موضوعاتها الرئيسية، ومن هذه الخرافات والأساطير ما هو مزيج من رشحات المخيلة العربية ومخيلة الشعوب الأخرى، ومنها أيضاً ما هو أجنبي خالص استعماره العرب من الأمم الأخرى وتداولوه فيما بينهم كقصص (رستم واسفنديار) التي يشير القرآن الكريم إلى أنّ المشركين كانوا يستخدمونها لصرف الناس عن الاستماع إلى القرآن[3]. نستنتج من كل ما سبق أنّ (القصة) كانت متداولة بين العرب قبل الإسلام، وأنّ القرآن الكريم أخذ بنظر الاعتبار في اعتماده على القصة كأسلوب من أساليب الدعوة القرآنية، ميل العرب الشديد إلى الاستماع للقصص وتداولها في شكلها البسيط البعيد عن التعقيد والمبالغات والإسراف في الخيال.   الهامش:
[1]- الأيام هي أخبار ومعارك والوقعات المشهورة المهمة التي حدثت بين القبائل العربية كيوم (داحس والغبراء) ويوم (الفجار) ويوم (الكلاب). [2]- راجع: تاريخ آداب اللغة العربية، لجرجي زيدان، ج1، ص71، ولغرض الاطلاع على قصص تلك الأمثال يراجع كتاب الأمثال للميداني وغيره من الكتب الجامعة للأمثال.

[3]- وذلك في قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) (لقمان/ 6).

المصدر: كتاب القصص القرآني.. رؤية فنية

ارسال التعليق

Top