• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

التشريع والبدائل المطلوبة

حسن الخشن

التشريع والبدائل المطلوبة
 ◄من علامات الواقعية والمرونة في التشريع الإسلامي، التي تمنحه حيوية وقابلية للتكيف مع مختلف الظروف الاجتماعية ومختلف الأزمنة والأمكنة، هي امتلاكه لما نسميه فكرة البدائل الشرعية، ونعني بها أنّه عندما يضع الإسلام مجموعة من القيود التي تضبط حركة الإنسان في الجانب الأخلاقي، فيحرم عليه بعض الأشياء التي تهواها نفسه، فإنّه في الوقت نفسه يترك له ساحة كبيرة ليتحرك فيها أخذا بأسباب اللهو البريء والحلال، ويطرح أمامه بدائل محللة يملأ بها فراغه، وتعطيه ارتياحاً وترويحاً للنفس، مما يساعده على تجديد نشاطه، وتزيح عنه قسوة الجدية والرتابة التي تحصل له من خلال مداومة العمل الدنيوي أو الأخروي، وقد ورد في الحديث: "روحوا القلوب ساعة فساعة" (كنز العمال 3/37)، وورد أيضاً: "إنّ هذه القلوب تمل كما تمل الأبدان، فابتغوا لها طرائف الحكم" (نهج البلاغة)، وإليك بعض الأمثلة على هذه الفكرة: 1-    حرم الإسلام المقامرة لما فيها من المفاسد التي أشار إليها القرآن (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (المائدة/ 90-91)، ولكنه وفي المقابل فتح أمام المسلم باباً بديلاً عن المقامرة، وهو ما يسميه الفقهاء بالمسابقة التي أشار لها الحديث الشريف: "لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل" (الوسائل ب3 من أبواب السبق والرماية ح2)، حيث دل على جواز المراهنة في "الخف والحافر" أي السبق بالخيل والإبل، وفي "النصل" أي الرمي بالسهام، وهذه المفردات الثلاث المذكورة في الحديث هي مجرد نماذج لما كان يستخدمه الناس في العصور الماضية، لكن الحكم لا يتجمد عندها، لأنّ الأساس الذي ينطلق منه هذا الحكم عام، ومن هنا أفتى الفقهاء بأنّه: "لا يبعد صحة المسابقة في جميع الآلات المستعملة في الحرب، كالآلات المتداولة في زماننا (منهاج الصالحين 2/119)، من قبيل الرماية بالبنادق والسباق بالسيارات العسكرية ونحو ذلك. 2-    حرم الإسلام الربا لما فيه من مضار اقتصادية واجتماعية تصيب الفرد المرابي، بل المجتمع برمته بالتخبط والمس، كما قال تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ...) (البقرة/ 275). إلا أنّه بإزاء ذلك فتح أمام الناس أبواب التجارة على مصراعيها، فأباح البيع والإجارة والمضاربة والمزارعة والمساقاة والشركة وغيرها من أنواع التجارة التي تخلو من مفاسد الربا، فلا يكون المال فيها هو الذي ينتج المال، وإنما المال مضافاً إلى العمل هو الذي يولد المال. 3-    وحرم الإسلام أيضاً العلاقات الجنسية الشاذّة أو التي تقع خارج نطاق الزواج والأسرة، لما فيها من مفاسد اجتماعية، فهي تؤدي إلى تدمير الأسرة واختلاط الأنساب والخروج على الفطرة وقد قال تعالى: (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا) (الإسراء/ 32)، إلا أنّه وفي مقابل ذلك فتح أمام الإنسان باب الزواج الدائم والمنقطع ليروي غريزته ويشبعها، (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ) (النساء/ 3)، (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) (البقرة/ 223). 4-    وحرم أيضاً الغناء والموسيقى المناسبين لمجالس أهل الفسق والفجور والمثيرين للشهوات والغرائز بما يؤدي إلى انفلاتها، حرصاً منه على شخصية الإنسان، وصيانة لها من الميوعة والانجراف مع الشهوة، لكن وفي المقابل، فإن هناك نظرة فقهية تذهب إلى أنّ الموسيقى التي لا تحمل الصفة المتقدمة محكومة بالحلية، "كالموسيقى الكلاسيكية أو التصويرية أو الحماسية أو نحوها من أنواع الموسيقى التي قد ترتفع بالنفس أو تهدئ الأعصاب" (دنيا الشباب 221)، وهكذا الحال في الغناء الذي لا يشتمل على مضمون باطل ولا يكون مثيرا للغرائز، أو غناء المرأة لزوجها، أو الغناء في الأعراس، فإنّه ليس محرما بنظر كثير من الفقهاء بل هو من البدائل الشرعية عن الغناء المحرم. 5-    وهكذا نجد أن فكرة البدائل الشرعية تمتد إلى الواجبات ولا تقتصر على المحرمات، فالوضوء الذي أوجبه الإسلام مقدمة "للصلاة أو الطواف إذا لم يتمكن منه المكلف لفقد الماء أو تضرره من استعماله أو نحو ذلك، له بدل وهو التيمم (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا) (النساء/ 43). ولو نظرنا في العبادات والواجبات كلها لوجدنا لها بدائل، لا سيما في صورة العجز والاضطرار أو الإكراه. فالصلاة من قيام تسقط عن العاجز ويكتفي بالصلاة جلوسا، والصوم يسقط عن الشيخ الكبير وكذا الشيخة ويدفع بدلا عنه الفدية، والعاجز عن الجهاد بالنفس يجاهد بماله.. ونلاحظ فكرة البدائل بشكل جلي في أصناف الدية، فإنّه في حالات القتل التي تدفع فيها الدية نرى أنّ التشريع لم يحدد الدية بصنف معين من الأموال، حتى لا يوقع من لا يمتلك هذا الصنف في الحرج، وإنما طرح للدية أصنافاً ستة كانت في زمن التشريع هي أبرز أموال الناس، ففرض على أهل الإبل، مائة من الابل وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشياه ألف شاة، وعلى أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الفضة عشرة آلاف درهم، وعلى أهل اليمن مائة حلة (ثوب) يمانية، وكانت قيمة هذه الأصناف آنذاك متساوية.   -        ضرورة إيجاد البدائل المحللة: ما تقدم يعطينا صورة معينة عن التشريع الإسلامي، وأنّه ليس تشريعاً جامداً وذا لون واحد أو صبغة محددة، بل إنّه يختزن المرونة في نصوصه وقواعده وفيما يخططه ويضعه من حلول وبدائل للحالات الطارئة. وهذا ما يدعو الفقيه بالدرجة الأولى إلى أخذ هذا المبدأ بعين الاعتبار أثناء ممارسته للعملية الاجتهادية، لتأتي اجتهاداته منسجمة مع هذا المبدأ، تماما كما عليه أن يأخذ بعين الاعتبار المبادئ الإسلامية الأخرى، كمبدأ العدالة أو السهولة أو غيرها.. حتى لا تكون نتيجة اجتهاداته مخالفة لهذه المبادئ التي تشكل طابعاً عاماً للشريعة، وهذا مع الأسف ما قد يحصل أحياناً، كما في الفتوى التي تقول: إنّ من سرق من شخص ما ألف ليرة لبنانية قبل خمسين سنة فإنّه لا يلزم اليوم ورغم أنّ الألف التي كانت تبني له غرفة كاملة لا تشتري له اليوم سوى لبنة واحدة إلا بدفع الألف، مع أن هذا لا ينسجم مع مبدأ العدالة الذي أراد الإسلام ترسيخه وتطبيقه. كما أنّ هذه الفكرة فكرة البدائل تدعو بالدرجة الثانية الدولة الإسلامية ومراجع المسلمين وكل القائمين على الوضع الإسلامي والعاملين على تثبيت القاعدة الإيمانية في هذه الظروف التي شاعت فيها المنكرات وأصبح المؤمن محاطا بها من كل جانب، إن ذلك يدعوهم إلى استيلاد البدائل واستحداث كل الوسائل التي من شأنها تحصين المؤمنين وحفظهم وحفظ أولادهم من الانجراف في تيار الانحراف، ولو عمل المسلمون على إيجاد هذه الوسائل من الملاعب والمسابح إلى مدن الألعاب والملاهي، إلى المسارح والتمثيل والإعلام والمدارس وأحسنوا تنظيمها وإدارتها، لاستطاعوا ليس فقط أن يحصنوا أنفسهم ويحفظوا إيمان أبنائهم ويحولوا دون تفلتهم من الإسلام بسبب ما قد تشعرهم به أجواء الانحراف المطبقة عليهم أنّ الشريعة تمثل قيداً وعبئاً ثقيلاً لابدّ من التخلص منه، بل لاستطاعوا أيضاً أن يفتحوا العالم بفكرهم الأصيل وينتشر الهدى من حيث انتشر الضلال. المصدر: كتاب الشريعة تواكب الحياة

ارسال التعليق

Top