• ٢٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

العلمانيّة هي الحل ؟!

د. عادل محمد عايش الأسطل

العلمانيّة هي الحل ؟!

منذ الثورة الفرنسية التي حدثت في منتصف عام 1789، كانت شهدت أوروبا، فترة تحولات سياسية واجتماعية كبرى، كان لها الأثر الكبير، في كتابة التاريخ السياسي والثقافي لفرنسا وأوروبا بوجه عام. حيث بدأت حكومات الثورة، على إلغاء ما كان سائداً، سواءً ما يتعلق بنظام حكم، أو فيما يتعلق بالامتيازات الإقطاعية للطبقة الارستقراطية، والأهم هو تحجيم دور "الكنيسة الكاثوليكية" وتقييد النفوذ الديني لديها. لتميز نظام الحكم في فرنسا قبل الثورة، باستحواذ الملك والنبلاء، على الحكم في إطار الملكية المطلقة، حيث كانت تستند إلى الحق الإلهي النابع من تعاليم الكنيسة الروحية، مع عدم وجود دستور يحدد اختصاصات السلطة الحاكمة.
ثم ظهرت الثورة الصناعية في إنجلترا، كتأثير مباشر بالثورة الفرنسية، كونها جارةً لها وأكثر التصاقاً ومعرفةً بثقافاتها وأعرافها وتقاليدها الأخرى، التي كان لها تدمير البقية الباقية من دور الكنيسة أنذاك، وباختزال نشاطاتها في إطار ديني محصور داخل جدرانها فقط، ومن ثم أوجدت ما تليّن به الكنيسة، من خلال أساليب" التنصل الديني" وخلق ما يسمى "التناغم الثقافي" وإزالة أسباب التوتر الحاصل في العلاقة بين الكنيسة وملوك أوروبا، من زوايا واتجاهات غير دينية.
هذه المبررات، كانت من العوامل المهمة، إضافةً إلى الأسباب التي كانت تراكمت طوال القرون الفائتة، ضد الكنيسة وما يتفرع عنها بوجهٍ عام، ومنها الفساد وحصر المناصب من قبل الملوك أصحاب السلطة المطلقة، والحفاظ على ما لدى القساوسة والرهبان، من سلطة وحيازات دنيوية أخرى. فكان رجال السياسة يفعلون كلَّ ما بدا لهم من قمعٍ وحجرٍ وإيذاءٍ، وتخلفٍ، تحت مظلة الدين التي هي بدورها كانت تتسع باتساع هذه الأفعال. إضافةً إلى كبت الحريات المعتادة للأشخاص، هذه كانت من العوامل التي استندت عليها تلك الثورات، لإحداث وعن قصد قوي عملية الفصل بين الدين والدولة.
وكانت الولايات المتحدة الأمريكية الناشئة حديثاً، قد اعتمدت ذلك المبدأ، بسبب ثقافتها الفطرية الأوروبية، لاسيما وأن تكوينها جاء عن شعوب وأعراق وجذور أوروبية، حيث أسهمت في خلق مجتمع جديد، تميز بانطلاق الحريات المختلفة، وبتشجيع "رأس المال" وأصحاب المؤسسات الصناعية والتجارية والمصرفية، التي ترتب عليها، أن أُهملت المعتقدات الدينية، وأُسقطت الروابط العائلية، التي كانت مصدر تكافل اجتماعي واقتصادي، وبمباركة الدولة أيضاً.
وحين سيطرت الثورة البلشفية "الشيوعية" 1917، بقيادة "فلاديمير لينين" بدت أشد قسوة، ضد الدين والمعتقدات والطقوس الدينية الأخرى بشكلٍ عام من بقية الدول، حيث أنكرت منذ البداية، على الدين والمعتقدات المتعلقة بالخالق والمخلوق، وليس على فكرة تطبيقها في أنظمة الحكم وحسب، بل على من يعتقدونها، ويؤمنون بها أو يمارسونها، وجعلتها من الاتجاهات والتوجهات المرفوضة في الدولة، وجعلت لمن يدّعيها الإدانة والعقاب. ومعتمدةً مقولة "كارل ماركس" الشهيرة "الدين أفيون الشعوب" الذي كان درس أحداث الثورة الصناعية الفرنسية، وعاصر نهضة أوروبا حينذاك.
وبما أن الدول العربية، قومية وملكية، وتبعاً لطبيعة أنظمتها السياسية، وللبيئة المعاشة والمحيطة بها، فقد فندت نفسها غربية وشرقية، فمنها ما تبعت العالم الغربي الرأسمالي، الذي عمل على فصل الدين عن الدولة، وطالبها بذلك، ومنها ما لحق بالعالم الشيوعي الشرقي، واشترط التصدي للدين أينما وجد. وهكذا أصبح النظام العالمي أقرب إلى النظام "اللاديني"
ونظراً للحالة التي بدا عليها العالم العربي، من خلال عدم وجود دولٍ عربية ذات أنظمة صالحة، وذات اقتصادٍ قوي، وعدم احترم الشرائع الدينية أو الالتزام بها، والعمل على اقتلاع المنادين لأجلها، ومن جهةٍ أخرى من انقياد واضح، إما للكتلة الغربية أو الشرقية، في الإذعان لمطالبها، وتلبية لشروطها، الأمر الذي أنبأ ببروز المشكلات وتعاظم المعضلات، ما بين الدين ويمثله العلماء والفقهاء، إما فرادى، أو رؤساء جماعات، وما بين الدولة ويمثلها رجال الحكم والسلطة، مما أوجد حالة صراعية متأججة، لا تكاد تخبو جذوتها، حتى تشتعل من جديد، جعل من الصعب احتواء الحركات الإسلامية، التي كانت تشكلت، في الخفاء والعلن، إلى تبنّي شعارات إسلامية، للخروج من الأزمات العربية "ديناً ودنيا" وأهمها، "الإسلام هو الحل" حيث لمستها أغلبية من الشعوب، ولكن من خلال إملاقٍ وضعفٍ شديدين.
وكان ما أثار قلق الدول الغربية لا سيما الولايات المتحدة، على نحوٍ جاد، من حيث شعورها السلبي والمتواتر، من قبل الشعوب العربية، وسواء بدا ذلك بطريق العداء المعنّف أو الكراهية والتأفف، حيث شكلت أضراراً على أمنها، ومختلف مصالحها في العالم.
وكانت سبباً في إيجاد قاعدة أساسية لتشكل نويات لحروبٍ ضروسٍ، بين الولايات المتحدة وحلفاؤها، والدول التي ترعي أو تساند الإسلاميين، وسواء كانت مباشرة وغير مباشرة، وسواء، عن طريق العقاب أو بطريق الثواب. وكانت حاربت الولايات المتحدة جمهورية إيران الإسلامية، ليس لقطعها العلاقة معها وحسب، وإنما لنظامها الديني المتبع ومخافة تصديره، ومن ثم لجأت إلى حصارها، وإرغامها على حربٍ طويلة مع العراق، وكانت قد فرضت حصاراً مشدداً ومقاطعةً قوية ضد السودان، عندما اعتمد مبادئ الشريعة الإسلامية، وقوطعت بشدة أكبر حركة "حماس" ذات التوجه الإسلامي، بمجرد فوزها في الانتخابات التشريعية، وحتى النظام التركي، فلم تكن الولايات المتحدة أو أوروبا راضيةً يوماً عنها، منذ تولي حزب العدالة مقاليد الحكم، بالرغم من كونها عضو في الحلف الأطلسي.
وفي العادة كثيرةً هي الحجج، التي كانت تعتمدها الولايات المتحدة وحلفاؤها، وتستند إليها في ذلك، وهي محارب الإرهاب، ومحاربة المتشددين، الذين انحرفوا وحرًفوا مبادئ الإسلام. ولم تكن لتعترف، بأن الكنيسة هي التي قامت بذلك العمل وليس الإسلاميين، وإلاّ لما قامت أوروبا بإسقاط الكنيسة وحرمانها دورها، فالكنيسة هي التي حرّفت الدين، ونشرت الأوهام والخرافات بين الناس، وابتزت الأموال بغير حق، ووقفت في وجه الحركة العلمية وحجّرت الفكر. لكن الدين الإسلامي لم يتغير في شيء، بالرغم مما شاب معتنقيه، من دول وحكام، منذ غابر الأزمان، بعضاً من اقتراف شبهات الظلم والتعدي والفساد، لكنها تظل في إطار التعديات والتجاوزات، لا التبديلات والتحريفات، التي لا تمس جوهر الدين أو تنقص من شأنه.
ومن جهةٍ ثانية كانت الولايات المتحدة وأوروبا، قد فرضت على بعض الدول العربية وخاصةً الدول المهمة، تنظيف مناهجها التعليمية، من المواضيع الدينية، وتقليص مدة تدريسها، والتخلي عن فرائض دينية، أو سنن أخلاقية وأدبية، وبالمقابل تسهيل مواضيع، ليس لها صلةً بالواقع العربي والإسلامي، والسماح بالحريات والتعاليم العولمية.
وبالرغم من أحداث الربيع العربي، الذي كان شهد ما يشبه الصحوة الإسلامية، حيث توضحت في فوز الإسلاميين، في عامة الدول التي عمّها ذلك الربيع، فلم يزعج ذلك التوجه، الولايات المتحدة، ولم يقلق بالها، لتأكدها على مقدرتها، على امتصاص تلك الطفرة، وبالسرعة ذاتها التي كانت تعتمدها عند كل حادثة، نظراً لأنها لا زالت تمسك بتلابيب النظام الدولي، سياسةً واقتصاداً ودبلوماسيةً، بحيث لا يستقيم لأحدٍ، أن ينأى بنفسه عن ذلك النظام، وإلاّ سيكون مصيره الحتف والهلاك.
ولهذا، كنّا رأينا، وبنفس الدرجة من السرعة أيضاً، في تبني الثورات العربية، لمبادئ الشريعة والرجوع إلى الإسلام، كنظام حكم، إلى التراجع عن ذلك والتنصل منه، وبرز ذلك جلياً لدى عدة دول، منها ما رفض الشريعة كمرجع أساسي في الدستور، ومنها ما اكتفى أو سيكتفي بالنظام العلماني، الذي كان سائداً في الخريف وقبل الربيع، لعلة أن النجاة تكمن فقط في "العلمانية والنظام العولمي"، وعلى أساس أن المشكلات العربية، لا يمكن اختزالها في البكيني والخمور، وهم يعلمون تمام العلم" أن ما بُني على باطل فهو باطل".

ارسال التعليق

Top