• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

تأملات قرآنية في قصة يحيى وزكريا/ ج3

مائدة عبدالحميد

تأملات قرآنية في قصة يحيى وزكريا/ ج3
ذكرنا في الجزئين الأوّل والثاني من هذا البحث والذي تحدّثنا فيه عن شخصية نبي الله زكريا (ع) كما يبينها لنا النص القرآني. فكان الكلام في ثلاثة محاور، حيث تكلمنا في المحور الأول عن زكريا (ع) مع الأنبياء – عليهم السلام – ومن ثمّ عرضنا ثلاثة صور يصورها لنا سبحانه عن الإنسان المرضي عنده وكيف يكون حيث يقدم لنا سبحانه ومن خلال استعراض مواقف زكريا (ع) في الصورة الأولى العبودية وكيف تجلت في هذه الشخصية بأبعادها الرائعة وفي الصورة الثانية يعلمنا الله سبحانه كيفية جميلة للدعاء المستجاب وفي الصورة الثالثة يبين لنا سبحانه جزءاً من هموم المؤمن الرسالي. وانتقلنا في المحور الثاني إلى استخلاص ملامح من شخصية زكريا (ع) كما يرسمها لنا النص القرآني فكان الكلام في محطتين وكانت المحطة الأولى عن علاقة زكريا (ع) بالله عزّ وجلّ حيث توصلنا إلى أربعة دروس: 1- الصبر 2- وقت الدعاء 3- تقديم الأهم على المهم 4- أدب الدعاء وفي نهاية هذه المحطة توصلنا إلى حل تناقض ظاهري وكانت المحطة الثانية عن الإستجابة الإلهية لدعاء زكريا (ع). وفي المحور الثالث تكلمنا عن علاقة زكريا (ع) بالناس حيث كان الكلام في أربعة محطات: 1- إطاعة الناس لزكريا (ع) 2- تعريف الناس بالنعمة الإلهية 3- الفائدة من النعمة الإلهية ستعم الجميع 4- السنخية بين النعمة وشكرها وفي النهاية قدّمنا بعض الإستنتاجات التي قد تستخلص من مجموع الآيات وفي الخاتمة قدّمنا بعض الأسباب التي يذكرها سبحانه لإستجابته لدعاء زكريا (ع). وفي القسم الثاني من هذا البحث نريد أن ننقل الكلام إلى المولود المبارك لهذا الوالد العارف المكرّم من قبل المولى عزّ وجلّ ونحاول أن نكشف بعض الأسرار الموجودة في شخصيته (ع) فمن هو: إنّه يحيى (ع) ولكن من هو يحيى (على نبيّنا وآله وعليه الصلاة والسلام)، كيف يعرّفنا الله جلّ وعلا على شخصيته في الآيات القرآنية الكريمة التي تخصه بالذكر؟   - شخصية نبي الله يحيى: يحيى (ع) الهبة الإلهية والإستجابة الربانية لزكريا (ع) (وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى...) (الأنبياء/ 89-90)، كان كما طلب أبوه في دعائه بل وأكثر من ذلك، تناسباً مع الكرم الإلهي والمحبة والحنان الذي يغدقه الرب الكريم على عباده الصالحين. فإذا أردنا أن نتعرف على شخصية عظيمة كشخصية يحيى (ع) فما أحرانا بأن نبدأ بها بما هي مولدة لأب عظيم كزكريا (ع) ولعل هذا هو ما يدلنا عليه السياق القرآني الذي يبتدأ الكلام عن يحيى (ع) بالكلام عن زكريا (ع) وهذا ما يشبّه إلى حدّ بعيد السرد القرآني لقصة ولادة مريم (ع) وكذلك ولادة المسيح (ع). فهذه النماذج القرآنية الجليلة كسبت أفضل ما كان في محيطها، وأوّل وأقرب ما كان إليها هم والدوهم. فهم الأرض الطيبة التي احتضنت هذه البذرة، المباركة (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ...) (الأعراف/ 58)، التي إستقبلت بشوق كل العناصر الغنية التي قدمتها إليها ونهلت من عذب ما سقوها من المعارف الإلهية والأخلاق الربانية الحقة فكانوا بحق خير خلف لخير سلف وهو ما يرتجى لهم وما هم جديرون به. فما ذكرناه للآباء يصدّق على الأبناء، إلّا أنّ الله سبحانه وتعالى يشير إلى نقاط أخرى متميزة في شخصية يحيى (ع) يجدر بنا التأمل فيها أيضاً، فتأملوا معي:   - المحور الأوّل: الهبة الإلهية: عندما يطلب العبد من ربه فهو يطلب من القادر المطلق، يطلب من الرحمن الرحيم، يطلب من العليم الحكيم. فقد طلب زكريا (ع) الولد ولكن أي ولد؛ طلب الولي، الوارث له ولآل يعقوب وهو المؤمن الحريص على ما في يديه من أموال ومقامات هي أمانات إلهية يريد أن يؤديها إلى أهلها ليكون مرتاح البال من ناحيتها حين حلول أجله ثمّ هو يطلب أن يكون رضياً فهذه المواصفات هي التي كانت تقرّبها عين زكريا (ع). فجاءت الإستجابة الإلهية عطاءاً متميزاً كريماً نابضاً بالمحبة والرحمة وكانت كما أراد زكريا (ع) وفوق ما طلب. وبالطبع فإنّنا عندما تتحدّث هنا وفي أي موضع آخر عن هذه الصفوة المختارة يجب أن نتجرد عن النظرة المادية الضيقة فالعطاءات المادية محدودة بينما العطاءات المعنوية ليس لها حدود، فلنتعرف على بعض الصفات والميزات كما يذكرها لنا القرآن الكريم في معرض كلامه عن هذه الصفوة المختارة:   - المحطة الأولى: مواصفات الهبة الإلهية: عندما يُبشر زكريا (ع) من قبل الملائكة، لا يُبشر بغلام ويُترك أمر تسميته لوالده أو لأي أحد من المخلوقين بل إنّ الخالق الواهب يهب مع الغلام هبة عظيمة جليلة أُخرى لا تقاس بشيء ولا تثمن بثمن ألا وهي الإسم لهذا الغلام وهذا الأمر بحدّ ذاته يبيّن إهتماماً قلّ نظيره، قد حبى المولى تعالى عبده زكريا (ع) به. إلى هنا نحن نتكلّم عن نفس التسمية حيث تظهر نوعاً مميزاً من العلاقة بين الله سبحانه وتعالى وعبده زكريا (ع) ومن ثمّ بينه سبحانه ويحيى (ع) فكما قلنا سابقاً عند الكلام عن دعاء زكريا (ع) أنّ العبد المؤمن يحب أن يطيل الكلام مع ربه وكذلك فإنّ الرب عزّ وجلّ يحب أن يسمع كلام هذا العبد، وهذا يظهر بجلاء مرة أخرى عند الإستجابة فإنّ الله سبحانه لا يكتفي بأن يستجيب لعبده بل هو يحبوه بالعطاء تلو العطاء، فبالإضافة إلى تبشيره بالولد فهو يوليه اهتماماً خاصاً فيسميه وهذه التسمية أيضاً لها ميزات وخصائص تستحق التوقف عندها:   - أولاً: التسمية الإلهية: الإسم المختار إلهيّاً قد صُنع خصيصاً جديداً لهذا العبد، فلم يُسمّ أحد قبلاً بهذا الإسم بل هو إسم مخترع ومبتكر قد فُصّل على مقاسات هذا العبد كرامة وعطاء إلهياً له ولوالده (ع). (يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) (مريم/ 7)، (يذكرنا هذا الكلام في التسمية بتسمية أهل البيت – عليهم السلام وخصوصاً بتسمية الإمام الحسين (ع) فتأمل).   - ثانياً: اسم على مسمّى: عندما تطلق الأسماء على الأشياء فإننا نريد أن نصفها أو نعرفها بخصائصها الموجودة فيها فكأننا نريد أن نرسم حدوداً لشخصيتها ولكن إذا أردنا أن نتكلّم عن تسمية مولود معين فالأمر هنا يختلف فعندما يُسمي الوالدان وليدهما فإنهما لا يكونان مطلعين على شخصيته لأنها لم تتكون بعد فيكون الإسم كاشفاً عن شخصيتهما وما يتطلعان أن يكون عليه الوليد في المستقبل وعن المجتمع الذي يعيشان فيه و.. وهذا كلّه لا يصدق على تسمية الله عزّ وجلّ لمخلوقاته فعندما يهتم المولى جلّ وعلا بهذا المخلوق فيضع له إسماً وبعناية خاصة منه عزّ وجلّ (كما في مورد بحثنا هذا) فهو سبحانه يريد أن يؤكد وينبه إلى حقائق وخصوصيات في شخصية هذا العبد المخصوص بالعناية الربانية فيكون اهتمامنا بالإسم طريقاً للتعرف على هذه الحقائق والخصوصيات وبهذا تكتسب هذه التسمية أهمية مضاعفة، فكيف يريد أن يعرّف لنا سبحانه شخصية هذاالعبد عن طريق تسميته؟ فماذا يعني هذا الإسم الذي لم يسم به أحد من قبل؟ إسم (يحيى) مشتق من الحياة ولكن آية حياة؟ إنها الحياة المستمرة، الحياة الحقيقية مادياً ومعنوياً في ظل المولى الكريم. فقد كانت حياة يحيى (ع) كما تنقله لنا الروايات، ذكراً دائماً دائباً لله سبحانه وتعالى وبكاء متواصلاً مستمراً من خشيته حتى تناثر لحم خديه على ما ورد في بعض الروايات؛ كما في الأمالي بإسناده إلى النبي (ص) قال: كان من زهد يحيى بن زكريا – عليهما السلام – أنّه أتى بيت المقدس فنظر إلى المجتهدين من الأحبار والرهبان عليهم مدارع الشعر وبرانس الصوف وإذاهم فرقوا تراقيهم وسلكوا فيها السلاسل وشدوها إلى سواري المسجد. فلما نظر إلى ذلك، أتى إلى أمه، فقال: يا أماه انسجي لي مدرعةً من شعر وبرنساً من صوف حتى آتي بيت المقدس فأعبد الله مع الأحبار والرهبان فقالت له أمه حتى يأذن نبي الله وأوامره في ذلك، فدخل بمقالة يحيى، فقال زكريا: يا بني ما يدعوك إلى هذا وإنّما أنت صبي صغير؟ فقال له يا أبت أما رأيت من هو أصغر مني سناً قد ذاق الموت؟ قال: بلى، ثمّ قال لأمه انسجي له مدرعةً من شعر وبرنساً من صوف، ففعلت. فدرع المدرعةَ على بدنه ووضع البرنس على رأسه، ثمّ أتى بيت المقدس فأقبل يعبد الله عزّ وجلّ مع الأحبار، حتى أكلت مدرعة الشعر لحمه، فنظر يوماً إلى ما قد نحل من جسمه، فبكى، فأوحى الله تعالى: يا يحيى أتبكي مما قد نحل من جسمك، وعزتي وجلالي لو اطلعت على النار إطلاعة، لتدرعت مدرعة الحديد فضلاً عن المنسوج، فبكى حتى أكلت الدموع لحم خديه، وبدا للناظرين أضراسه. فبلغ ذلك أمه، فدخلت عليه وأقبل زكريا واجتمع الأحبار والرهبان فأخبروه بذهاب لحم خديه، فقال ما شعرت بذلك، فقال زكريا يا بني ما يدعوك إلى هذا إنّما سألت ربّ أن يهبك لي لتقر بك عيني؟ قال أنت أمرتني بذلك يا أيه، قال ومتى ذلك يا بني؟ قال: ألست القائل: إنّ بين الجنة والنار لعقبة لا يجوزها إلا البكاؤن من خشية الله؟ قال: بلى، فجد واجتهد وشأنك غير شأني...[1] وفي هذه الرواية ما يغني عن البيان ففيها صور بديعة من حياة يحيى (ع).   - المحطة الثانية: (.. وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) (آل عمران/ 39). أوّلاً: السيادة الإلهية (وسيدا) من المواصفات التي ينوه بها الله سبحانه عند الكلام عن هبته الكريمة أنّ يحيى (ع) سيكون سيدا (وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) فما هي هذه السيادة؟ هي بالطبع لا يمكن أن تكون في الأمور المادية فقد كان (ع) عازفاً عنها زاهداً فيها، أو على الأقل لا يمكن أن تكون محصورة في الأمور المادية لأنها تكون محصورة في الأمور المعنوية ولا تستحق أن تذكر في صدر الكلام الذي يمدح فيه المولى عزّ وجلّ عبداً من عباده المخلصين فهل كانت سيادة من نوع خاص؟ (يقول الشيخ الطبرسي في مجمع البيان: سيدا: أي في العلم والعبادة وقيل كريماً على ربه، وقيل فقيهاً عالماً، وقيل سيداً للمؤمنين بالرئاسة عليهم)[2] ولكن قد تكون هي الطاعة التي يفرضها سبحانه لعبده هذا على سائر مخلوقاته (ما فصلنا الكلام في القسم الأوّل حول زكريا (ع) في المحطة الأولى من المحور الثالث فراجع) حتى على من لم يكن من مريديه ومتبعيه كما تشير قصة قتله (ع) كما يرويها لنا كتاب قصص الأنبياء[3]. ثانياً: الحصورية (وحصورا): عندما تستعرض الملائكة المواصفات الإلهية لزكريا (ع) مبشرين بيحيى (ع) ومادحين له، يذكرون عدد من الخصائص التي تتميّز بها هذه الشخصية الفذة وواحدة من هذه الخصائص قد وقع فيها كلام كثير بين العلماء[4] هي صفة "الحصور" وهي بصيغة المبالغة من الفعل "حصر"، فماذا أراد سبحانه بمدحه ليحيى (ع) ووصفه اياه بأنّه "حصور"؟ يجيبنا على ذلك الشيخ الجواهري وقد أجاد في جوابه (ولعل الأولى في الجواب أنّ المراد بالحصور ما عن كثير من المفسرين من أنّه المبالغ في حبس نفسه عن الشهوات والملاهي، من الحصر بمعنى الحبس وحينئذٍ فمدحه (ع) بتنكبه عن الشهوات وإعراضه عن الملاهي واللذات كما هو المعهود عن حاله على ما حكاه عنه العسكري (ع): قال: "ما من عبدالله إلا وقد أخطأ أو هم بخطيئة ما خلا يحيى بن زكريا (ع)، فلم يذنب ولم يهم بذنب" عكس المعهود من حال غيره الذي زُين له حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة وغيرها من الملاذ والشهوات، فلا دلالة للآية على رجحان ترك التزويج، ضرورة أن حصورتيه بالمعنى المزبور لا تنافي تزويجه للنسل وغيره، لا للشهوة واللذة ونحوهما ولعله إلى هذا وما يقرب منه يرجع ما أُجيب عنه أيضاً بأنّ مدحه (ع) ليس على ترك التزويج حتى يدل على مرجوحيته بل على انكسار الشهوة الطبيعية له بغلبة الخوف واستيلاء الخشية وقهرها بالعبادات والرياضات، ولا ريب في حسن ذلك ومدحه وإن أدى إلى ترك التزويج المطلوب، فإنّ تأدية الشيء إلى ترك أمر مطلوب لا ينافي حسنه، لتمانع أكثر الطاعات مع اتصاف جميعها بالحسن، وإنّما أطلق عليه الحصور لأنّ وجود الشهوة فيه بمنزلة العدم، فكأنه حصور لا شهوة له أصلاً، وليس إطلاقه عليه لترك النساء الملزوم لذلك التزويج حتى يكون مدحاً له على ذلك فيستلزم مرجوحية التزويج ولا لسلب الشهوة ونزعها عنه بالكلية حتى ينافي وروده مورد المدح والثناء، ووقوعه نعتا لمن لا يليق به النقص على كل حال فلا دلالة للآية على رجحان ترك التزويج لمن تتق نفسه إليه)[5]. ثالثاً: النبوة والصلاح (ونبيّا من الصالحين): النبوة منصب عظيم يدّخره الله سبحانه لصفوة عباده فيجتبيهم ليكونوا سفراءه إلى خلقه، وحلقة الوصل بينه وبين بقية عباده فيقومون لما فيهم من مقومات وبتأييد الله سبحانه لهم بأعباء مهام خطيرة وشاقة في مسيرة طويلة يهدون بها الناس ليصلوا إلى لقاء ربهم وهو راضٍ عنهم فينقلوهم من الظلمات إلى النور وينتشلوهم من مستنقع الحيرة والضلالة إلى برّ الأمان والسعادة الأبدية، فبمجرد أن تطلق لفظه (بني) على عبد من عباد الله كانت هذه اللفظة كافية ليتداعى إلى الذهن عدد هائل من المواصفات والمؤهلات الممتازة حصّلها صاحبها بالتقوى ومجاهدة النفس والصبر على الامتحانات الإلهية وصولاً إلى هذا المقام العظيم فإذا وصل واتصل بمبدأ الخير والصلاح في الكون بدأت رحلته الطويلة لهداية الناس. وهنا ونحن في معرض كلامنا عن هبة الله لزكريا (ع) نجد أنّه سبحانه يبشر نبيه زكريا (ع) بأنّ الغلام الذي سيهبه له سيكون نبياً أي أنّه سيصل إلى هذا المقام المعنوي العظيم ثمّ إنّه سيكون نبياً من الصالحين جامعاً لمقامين عظيمين في عبارة واحدة لتكتمل اللوحة التي خطتها يد الرحمة الإلهية للبشرى لهذا العبد الذي قد بلغ من الكبر عتياً فوقف بين يدي مولاه بطلب منه مسترحماً ومستعطفاً الولد الولي الوارث الرضي فكانت هذه اللوحة مزدانة بألوان الحلل النورانية التي جاءت على شكل صفات ومقامات جليلة لهذا الوليد الذي كان لإستجابة طلب هذا الشيخ النبي العبد المتوكل... فكان هذا الولد بحق كما أراد أبوه وأكثر بدرجات تفوق الوصف، فسبحان الله الكريم الذي لا يردّ عبداً دعاه بالخيبة والحرمان بل يحبوه ويمنّ عليه ويكرمه. فهذه الصفة الجليلة من الصالحين جاءت هنا مقترنة مع مقام النبوة فأظفت على هذا المقام رونقاً وصفاءً خاصاً ومن اللطيف أنها جاءت مقرونة بذكر يحيى (ع) في موضعين من القرآن الكريم؛ في الموضع الأوّل آية البشرى التي نحن في صددها (فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) (آل عمران/ 39)، وفي موضع آخر، في معرض الكلام عن أنبياء الله العظام حيث يستعرض لنا سبحانه أنبيائه الكرام مادحاً لهم مبينا تصديهم لمهام الرسالة والتبليغ وما واجهوه من أقوامهم من التعنّت والأذى والعناد والإستكبار وثباتهم على العقيدة الحقّة فيذكر بالتفصيل عدد منهم ويكتفي بذكر عدد آخرين بالإسم وبعض الصفات فيقول في معرض مدحه لهم فرادى ومجموعات، فيذكر في إحدى المجموعات زكريا ويحيى وعيسى وإلياس (ع) واصفاً إياهم بأنهم من الصالحين (وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ) (الأنعام/ 85)، وفي وضوح هذا الكلام ما يغيننا عن الشرح والتفصيل. إلى هنا كنا نتكلم عن يحيى (ع) في قالب البشرى التي بشرت بها الملائكة زكريا (ع) كما هو النص القرآني والآن نريد أن ننتقل مع القرآن الكريم إلى الكلام عن يحيى (ع)، فماذا يذكر سبحانه بهذا الخصوص؟   - المحور الثاني: الخطاب الإلهي ليحيى (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) (مريم/ 12).   - المحطة الأولى: الخطاب الإلهي ليحيى (ع) (يَحْيَى) فهنا نشاهد آية أخرى من آيات البلاغة القرآنية فقد انتقل الكلام بسلاسة وبساطة ومن دون أي تكلف من الحديث عن دعاء زكريا (ع) وتبشيره إلى الكلام عن يحيى وبدون أيّ مقدّمات وهو أسلوب بليغ من أساليب القصص القرآني حيث ينقل لنا سبحانه التسلسل القصصي بإنسيابية بليغة ناقلاً الأحداث المهمة باختصار مفيد وهو مع ذلك يفي بالغرض تماماً من دون أن يحس القارئ بأنّه كلام مبتور، ومن دون أي خلل في السرد والبلاغة وتتابع الأحداث ومن جهة أخرى يحس القاريء للقرآن الكريم بأنّه يتعرف على بعض الجوانب من شخصية هذا العبد الذي بعطف الله سبحانه الكلام إليه فيخاطبه مفتتحاً الكلام عنه.   - المحطة الثانية: الأمر الإلهي ليحيى (ع) ليأخذ الكتاب بقوة (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) فأي كتاب هذا الذي يؤمر يحيى (ع) بالأخذ به؟ هناك إحتمالات: 1- أنّه التوراة حيث أنها هي الكتاب السماوي عند بني إسرائيل فيكون الأمر الإلهي هنا بأن يتمسّك يحيى (ع) بتعاليم التوراة ويلتزم بها بجد وإخلاص. 2- وهو ما تقول به الصابئة من أنّ كتاباً نزل عليه (ع) من السماء[6].   - المحطة الثالثة: الحكم في عمر الصبا: يمرّ الإنسان عادة في مدة حياته التي قدرها له سبحانه على وجه هذه البسيطة في عدّة مراحل وأدوار تمر عليه بتسلسل فيكون خاضعاً لقوانينها التي تفرضها عليه طبيعة سنّه ولكن كما أنّ لكل قاعدة شواذ فنحن نسمع بين الحين والآخر من يشذ عن هذه القاعدة كأن ينبغ أحدهم قبل أقرانه أو أن يشيب قبل أوانه وهكذا ولكن الأمر هنا مختلف فما ذكرناه آنفاً يكون بحسب القوانين الطبيعية أما عند الكلام عن يحيى (ع) (وكذلك عن أهل بيت النبوة – عليهم السلام –) فهو تقليده بوسام الكفاءة إلهياً لتولي منصب الحكم الحاكم الشرعي وهو المقدرة على النفقة في الدين في عمر الصبا وهو عطاءٌ إلهي قل نظيره وهو ما يشعر بوجود مميزات نادرة في هذه الشخصية العظيمة أدت إلى أن يحبوها الله عزّ وجلّ بهذه الكرامة وهو الذي لا يصدر منه أي أمر عبثي.   - المحور الثالث: (وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا) (مريم/ 13).   - المحطة الأولى: الحنان اللدني: الحنان وهو العطف والشفقة والرحمة ويا لها من معانٍ جليلة فكيف به إن كان من عند الرب الرحيم "فاللدن" بمعنى عند إلا أنّه أقرب مكاناً وأخصّ[7] وهنا نجد السنخية بين الطلب والاستجابة في أروع صورها فزكريا (ع) عندما يطلب قول (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) (مريم/ 5)، والله سبحانه وتعالى عندما يستجيب ويعطيه سؤله يهب هذا المولود حناناً من لدنه عزّ وجلّ فإذا كانت آسيا بنت مزاحم إمرأة فرعون تطلب أن يعوضها الله سبحانه وتعالى عمّا قاسته من فرعون وعمله وقومه بأن يبني الله لها بيتاً عنده في الجنة (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (التحريم 11)، فيصبح طلبها هذا مدعاة لإفتخارها وبياناً لدرجتها فإنّ زكريا (ع) يطلب الولي من لدن المولى عزّ وجلّ ويستجيب له سبحانه بأن يهب له الولي الذي له حنان من لدن المولي عزّ وجلّ فطوبى لهذين العبدين على هذا التوجه من المولى الكريم لها. ثمّ ما معنى هذا الحنان؟ فلتأمل في هذه الرواية التي وردت في الكافي الشريف عن أبي حمزة عن أبي جعفر (ع) قال: (قلت: فما عنى الله بقوله في يحيى (ع): (وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً)؟ قال (ع): تحنن الله، قال: قلت: فما بلغ من تحنن الله عليه؟ قال (ع) كان إذا قال يا رب قال الله عزّ وجلّ له لبيك يا يحيى)[8] فأي مقام وصله هذا العبد وأيّ علاقة وأيّ محبة يغدقها المولى الرحيم على هذا العبد المخلص وأيّ كلمات يمكن أن نستعين بها لوصف هذه العلاقة بين العبد ومولاه فلا نجد بعد عناء إلّا الإعتراف بالعجز أمام كل هذه العظمة.   - المحطة الثانية: التزكية الإلهية: الزكاة من المصطلحات التي جاء بها الإسلام فاختص بها إحدى الواجبات العبادية وهي التي يعطي على أساسها الفرد المسلم جزءاً من أمواله بشروط تذكر في محلها لبيت المال. وقد وردت في القرآن الكريم بمواضع متعددة بهذا المعنى ما عدا موردين إحدهما الآية التي نحن بصددها (وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً)، والأخرى في سورة الكهف (فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا) (الكهف/ 81)، فما هي "الزكاة" يقول مؤلف كتاب قصص الأنبياء (ع) (فُسرت بمعانٍ مختلفة، بعض فسّرها بالعمل الصالح، وآخر بالطاعة والإخلاص، وآخر ببر الوالدين والإحسان إليهم، ومعانٍ أخرى، وقد يشتمل المعنى الجميع)[9]. وجاء في منجد اللغة أنّ (الزكاة هي التطهير من الله سبحانه وتعالى من الذنوب وهي صفوة الشيء والزكي ما كان صالحاً زائد الخبر والفضل نامياً طيباً)[10] فإذا أردنا الجمع بين أقوال المفسرين وأهل اللغة لوجدنا أنّ الزكاة المضفاة على هذا العبد هو أن يكون مطهراً من الذنوب، صالحاً، نامياً طيباً، زائد الخير والفضل عاملاً بالأعمال الصالحة مصدراً للخير والبرّ والصلاح.   - المحطة الثالثة: التقوى: التقوى صفة من الصفات الجليلة التي يتوق كل إنسان مؤمن أن يتحلى بها لأنها من الصفات التي امتدح الله سبحانه المتحلين بها وهي صفة تضع الإنسان المؤمن في مصاف الذين تتقبل أعمالهم (قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة/ 27). فتكون سبباً لتقبل العمل، فما هي التقوى؟ (التقوى هي الورع عن محارم الله والتجنب عن اقتراف المناهي)[11]. ونحن نجد هنا أنّ هذه الصفة العظيمة هي مما يصف الله سبحانه عبده يحيى (ع) بها فإذا كان الواصف هو الله جلّ وعلا فلنا أن نتصور حقيقة إتصاف هذا النبي العظيم بهذه الصفة!!   - المحطة الرابعة: وبراً بوالديه ولم يكن جباراً عصيا: اقتضت مشيئة الرب الخالق الرحيم أن يولد الإنسان في كنف والدين يهتمان برعايته ويسهران على حمايته ويصرفان أغلى ما يملكان وهو عمرهما لأجله وفي المقابل فرض على الولد برّ هذين الوالدين والإحسان إليهما وأعتبره واجباً عليه وأكّد عليه وحث وشدد حتى جعله بعد عبادته عزّ وجلّ (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) (الإسراء/ 23)، وهنا نجده سبحانه يجعل البر بالوالدين في مصاف صفات عظيمة يذكرها سبحانه ليبين لنا عظمة عبد من عباده المصطفين فنراه مادحاً له بأنّه كان براً بوالديه، ووالداه على ما عرفنا من دعاء زكريا (ع) أبوه من قبل فقد بلغ من الكبر عتياً وقد وهن عظمه وامتلأ رأسه شيباً ولنا أن نتصور حالة أمه كذلك فهذان الوالدان على كبر سنّهما قد رُزقا بالولد البار العطوف الذي يسارع إلى برهما والإحسان إليهما وهو ما تصبو إليه نفس كل إنسان فطوبى ليحيى (ع) وطوبى لوالداه. وفي مقابل صفة البر بالوالدين والإحسان إليهما نجد صفة التجبر حيث أنّ الجبار: هو المتكبر الذي لا يرى لأحد عليه حقا[12]وصفة العصيان وهي عدم الطاعة وهما صفتان ينفيهما عنه (ع) الله عزّ وجلّ فهما صفتان قبيحتان ومما لا يليق بعبد كهذا العبد وهما منفيتان عنه بشهادة الله عزّ وجلّ. فكأنّه (ع) قد استكمل الفضل والمفاخر كلّها.   - المحور الخامس: السلام الإلهي: السلام وهو الأمان فإذا كان من الله عزّ وجلّ فهو الأمان الإلهي وهو هنا بصيغة النكرة لبيان عظمته فهو سلام من السلام إلى عبده يحيى (ع) في ثلاثة مواطن يكون الإنسان أحوج منه في أي وقت آخر إلى السلام أوّل موطن عندما يولد هذا الإنسان فيدخل إلى عالم لم يألفه من قبل عالم غريب عنه وهو ضعيف لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ويكون بأشد الحاجة إلى من يشعره بالأمان لهذا يهدأ المولود حديثاً إذا ما لُف واحتضن وأحس بالحنان والأمان فاللحظات الأولى من حياة الطفل في هذا الكون الكبير الذي يحيطه تكون من أصعب ما يواجهه في الحياة في هذه الدنيا والموطن الثاني الذي يرد فيه السلام هو حين مغادرة الإنسان للدنيا ودخوله إلى عالم البرزخ حيث تمر على الإنسان في تلك اللحظات من الأهوال مالا يوصف ويعاين من الأمور التي كانت مستورة عنه ما يشيب له رأس الشاب فما أحوج ما يكون الإنسان في تلك اللحظات إلى الأمان وإلى السلام والموطن الأخير الذي يذكر فيه السلام على يحيى (ع) هو يوم البعث، يوم النشور، يوم يصفه الله عزّ وجلّ في محكم كتابه الكريم بأوصاف يذهل منها العاقل اللبيب فإذا كان الوصف هكذا فما بالك بالمعاينة والحضور في ذلك الموقف الشديد الصعب الرهيب فإذا بمجموعة من البشر في هكذا موقف يتميزون عن جميع من حضر المحشر بأنّهم آمنون لا ينالهم الفزع الأكبر وهم في أمن وسلام، وهذا النبي الكريم يحيى (على نبيّنا وآله وعليه الصلاة والسلام) يقف معهم فهو مبشر من الله سبحانه وتعالى بأنّ له الأمان وفي هذه المواطن الثلاثة الشديدة الوطأة التي تمرّ على الإنسان كأنها الجبال الرواسي في ثقلها وكأنها آلاف الأعوام في محنتها فأنالنا الله شفاعة عباده المبشرين بالأمان في ذلك اليوم العصيب.   - الخاتمة: زكريا ويحيى وعيسى – عليهم السلام – ثلاثة من أنبياء الله العظام (على نبيّنا وآله وعليهم أفضل الصلوات والسلام). عاشوا في زمن واحد وفي مجتمع واحد، فكيف يمكن أن نفهم النسبة التي كانت تربط بينهم؟ وأي مثل وقدوة يمكن أن نستخلصها عندما ندرس العلاقة التي كانت سائدة بين هذه النخبة الإلهية؟ إنّ أول ما يتبادر إلى الذهن هو أنهم – عليهم السلام – كانوا أعلاماً للهداية وأنواراً تضيء طريق الحق لسالكيه فهم الأدلاء إلى الصراط المستقيم وهذا ما ينفي عن الذهن أيّ شائبة في نفسيتهم على مستوى الفكر وفي تصرفاتهم على مستوى العمل. والقرآن الكريم يصور لنا هذه العلاقة بعدة صور: الصورة الأولى: إذا تصورنا أن هناك تنافساً وتسابقاً بين هؤلاء الثلاثة فإنّما نتصوره على الأعمال الصالحة التي تزيدهم قرباً وحضوةً عند مولاهم الحق (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (المؤمنون/ 51)، فلا تناحر ولا تحاسد ولا تباغض، بل إن كلما يصدر منهم هو الطيب من القول والفعل. الصورة الثانية: إنّ التسلسل والترابط بين الأحداث من ولادة مريم (ع) إلى دخول زكريا (ع) عليهما في المحراب ورؤيته للرزق الإلهي ومن ثمّ دعاءه وطلبه للذرية تشعر بأنّ هناك علاقة بين ولادة يحيى (ع) بل وطلب (زكريا (ع)) للذرية في هذا الوقت بالذات وبين ولادة المسيح (ع) ولعل ما يؤيد هذا أنّ أول صفة تذكر في البشرى أنّه سيكون مصدقاً للمسيح الذي كانت تنتظره بني إسرائيل مخصوصاً زعمائهم وعلمائهم. الصورة الثالثة: إنّ أوّل ما يبشر به زكريا (ع) هو أنّ يحيى (ع) سيكون مصدقاً بكلمة من الله (أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ) (آل عمران/ 39)، فعندما تكون أول صفة وأول مدح لهذا المولود المبارك هو أنّه سيكون مصدقاً بهذه الكلمة (وهي المسيح هنا كما تفسّرها هذه السورة بالذات إضافة إلى مواضع أخرى من القرآن بفاصل ببعضٍ من الآيات من أنّ المسيح هو الكلمة من الله إنّ الله يبشرك (بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) (آل عمران/ 45)، فهذا يوحي بأنّ هذه البشرى بولد يصدق بالمسيح (ع) هو مما يثلج فؤاد زكريا (ع) وتقر عينه به وهي أنّ ولده سيكون مؤيداً ومصدقاً للنبي وهذه هي الموعود الصورة الثانية التي يقدمها سبحانه عن هذه الشخصيات العظيمة فلا يوجد فيها شيء من الأنانية والحسد بل هي مفعمة بالخير فلم يُرد زكريا (ع) أن يكون هو أو ولده أو كليهما هما المطاعان ولا أحد سواهما ولم يخطر على بالهما أن يخالفا أمر مولاهما ولا أن يكون لهما الخيرة أو رأي غير ما أراد الحق جلّ وعلا، بل هما مسارعان في الطاعة منشرحان يملأهما السرور والحبور لمولد المسيح (ع) قد وطنا النفس على المتاعب والمصائب التي قد تعترض سبيل الدعوة إلى الحق حتى لو أدى إلى فناء ذاتيهما وتقديم أعز جوهرة يملكها أي إنسان ألا وهي روحه في هذا السبيل المقدّس. الصورة الرابعة: أن يحيى (ع) سيكون مصدقاً للمسيح (ع) وهذا ما يتوقع من فرد كـ"يحيى (ع)" من عدة جهات: أوّلاً: من جهة أنّه نبي (وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) (آل عمران/ 39)، وقد أخذ الله الميثاق من النبيين أن يؤمنوا وبالتالي يصدقوا بمن يأتي من بعدهم إذا كان مصدقاً لما معهم (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (آل عمران/ 81). ثانياً: هو من الصالحين (وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ)، (وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ) (الأنعام/ 85). ثالثاً: هو من المتقين (وَكَانَ تَقِيًّا) (مريم/ 13). إضافة إلى صفات أخرى فكان بحق أهلاً لحمل هذه المهمة الخطيرة حيث تؤكد لنا الروايات أن تصديق يحيى (ع) للمسيح (ع) كان له الأثر الكبير في دعم المسيح (ع). فهو أي يحيى (ع) بما عرف عنه من زهد وتقوى وهو المفقه في الدين الآخذ للكتاب بقوة فإذا به أول من يؤمن بالمسيح (ع) ويؤيده وينصره فكان من يؤمن بحيى (ع) يؤمن بالمسيح – عليهما السلام – طاعة ليحيى (ع) وكان قد أدى هذا الدور الذي الذي رسمه له المولى عزّ وجلّ بجدارة وأهلية قل نظيرها. فتأمل معي أخي القاريء كيف ينقل لنا الله عزّ وجلّ عن طريق هذه الشخصيات العظيمة وما قدمه لنا القرآن الكريم عن مواقفها التي تبرز لنا كيف يجب أن يكون عليه الإنسان المؤمن في مختلف الظروف فكانت هذه النخبة الإلهية مثلاً يحتذى يوصلنا إلى طريق السعادة والفلاح. فالمؤمن الرسالي الواعي لا تهزه العواصف ولا تأخذ من إيمانه النوائب فقد التمس طريق الحق فهو عنه لا يحيد فإذا كان كذلك نالته الرحمة الإلهية وكان مؤيداً من الحق تعالى فهو في كنفه وفي حماه وفي ظله يوم لا ظل إلا ظله.  

 

الهوامش:

[1]- الحق المبين في قصص الأنبياء والمرسلين للسيد نعمة الله الجزائري، ص395. [2]- تفسير مجمع البيان للشيخ الطوسي ج438:1 نقلاً عن كتاب قصص الأنبياء لفاضل الكرباسي، ص292. [3]- النور المبين في قصص الأنبياء والمرسلين للسيد نعمة الله الجزائري، ص400/ قصص الأنبياء لفاضل الكرباسي، ص301 و302. [4]- ر. ك: تاج العروس للزبيدي ج6، ص282-283/ مجمع البحرين للشيخ الطريحي ج1، ص523/ فتح القدير للشوكاني، ج1، ص337/ عمدة القاري للعيني ج10، ص142. [5]- جواهر الكلام للشيخ الجواهري، ج29، ص21. [6]- قصص الأنبياء (ع) لفاضل الكرباسي، ص297. [7]- المنجد، ص719. [8]- قصص الأنبياء لفاضل الكرباسي، ص297. [9]- قصص الأنبياء (ع)، ص297. [10]- المنجد في اللغة والأعلام، ص303. [11]- قصص الأنبياء (ع)، ص297.

[12]- قصص الأنبياء لفاضل الكرباسي، ص298 نقلاً عن لسان العرب ج44، ص113.

  المصدر: مجلة الكوثر/ العدد 27 لسنة 2012م

ارسال التعليق

Top