• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

دور الإنسان في منطقة الفراغ

السيد عادل العلوي

دور الإنسان في منطقة الفراغ

◄إنّ الإنسان يتكوّن من شهود وغيب، أو ظاهر وباطن، ومن الظاهر بدنه وحواسّه وجوارحه الظاهريّة ويمتثل ذلك كلّه في (قالبه)، ومن البواطن روحه وعقله ونفسه وفطرته والجامع لذلك (قلبه) فالإنسان قلباً وقالباً، وانّه – كما يبدو – في خلقه الأوّلي قد جعل بمنزلة بئر نصفه التحتاني ملئ، ونصف الآخر فارغ، والنصف المملوء والصمدي إنما يعبّر عنه بالفطر الموحدة، وإنها مجلَى ومرآة لصمديّة الله وغناه، فانّ من معاني الصمد في قوله تعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ) (الإخلاص/ 1-2)، المملوء الذي لا فراغ فيه ولا يوف له، فالله سبحانه في وجوده الواجب لذاته وبذاته صمدُ غني في ذاته وأسمائه وصفاته الكماليّة، وقد تجلّت الصمديّة الإلهيّة فيمن يستخلفه من خلقه، أي الإنسان الكامل العيني ومن يحذو حذوه، وينهج منهجه ويسلك طريقته، وفي بداية الأمر قد أملى الله الإنسان في نصفه بفطرة موحدة (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) (الروم/ 30).

ومن الأُمور الوجدانيّة والبديهيّة في الإنسان أمياله الباطنيّة، فإنّه يميل إلى ما يرغب ويحبّه، ومنشأ الأميال هذه إمّا الغرائز أو الفطرة، والفرق بين الميلين الفطري والغريزي أنّ الأوّل ينطلق من فطرة الإنسان ومن النصف الملؤ، وانّه من الأمر التكويني، وأنّ دليل الفطرة من الدليل العصمتي، ثمّ للفطرة وميلها ينابيع ثلاثة:

1- حبّ الكمال. 2- حبّ الجمال. 3- حبّ الخير، فإنّ كلّ واحد من البشر بفطرته يجب الكمال والجمال والخير، ولو خلّى ونفسه، فإنّة تكوينيّاً يميل إلى تلك الجهات، فالإنسان في إصالته وفطرته لم يخلق الله جانيّاً وشريراً، بل العوامل الخارجيّة كالفقر في المجتمع تجعل الإنسان سارقاً وشروراً، ولما كان الكمال والجمال والخير المطلق ومطلق الكمال والجمال والخير هو الله سبحانه وتعالى، فإنّه بفطرته يميل إلى ربّه وصانعه وعلّة وجوده، فكلّ مولودٍ يولد على هذه الفطرة والمسمّاة بفطرة التوحيد أو الفطرة الموحّدة، أي كلّ واحد يحب الوصول إلى الكمال المطلق ومطلق الكمال، وهو الله سبحانه الواحد الأحد الذي لا شريك له ولم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، إلّا أنّ أبويه يهوّدانه وينصّرانه أو يمجّسانه، فيقول: العُزيز ابن الله، أو يؤمن بالأقاليم الثلاثة، أو يعتقد بالهين إله النور وإله الظلمة (يزدان وأهريمن).

وأمّا الميل الغريزي، فانّه بلا جهة إنّما توجيه ذلك يتمّ باختيار الإنسان وحرّيته، فأمّا أن يميله بغرائزه كالغريزة الجنسيّة، إلى ما عليه اسم الرحمن كالنكاح الشرعي أو ما عليه اسم الشيطان كالسفاح المحرّم.

وهذه الغرائز إنّما جعلت هي في منطقة الفراغ وفي النصف الفارغ من وجود الإنسان، إلّا أنّ الله سبحانه بلطفه ليقرّب العبد إلى طاعته ويبعده عن معصيته، ويملي هذا الفراغ بصمديّته عزّ وجلّ، أرسل إليه الرسل وبعث الأنبياء وأنزل الكتب، وجعل الأوصياء والأولياء، كما أيّدهم بالحجّة الباطنيّة من العقل، كما أعانه بفطرته الموحّدة، كلّ هذا اللّطف من العليّ الخبير ليتكامل الإنسان، ويستخلف الله في غناه وصمديّته، ويملى الفراغ الذي فيه، إلّا انّه لحكمته، وانّه يسأل، ولا يُسئل فسح المجال للشيطان أيضاً، أن يستغلّ منطقة الفراغ، ومن ثمّ يُفرّغه من فطرته، ويعمي عليه ينابيع الفطرة ويميت قلبه، ويتمطّاه إذا اختار الإنسان ذلك، فالإنسان مختار بين أن يستجيب لما يُحييهُ من دعوة الله ورسوله، أو يستجيب لما يميت قلبه من دعوة إبليس وأعوانه من الجنّ والإنس، فكلّ واحد مخيّر بين دعوتين: إلهيّة وشيطانية (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) (الإنسان/ 3).

وزبدة الكلام: إنّ الفطرة تمتاز عن الغريزة أنّها لو خُلّيت ونفسها من دون أن تكون هناك عوامل مؤثّرة من داخل الإنسان كالنفس الأمّارة أو من خارجه والمحيط والمجتمع العام أو الخاص كالأُسرة وتربية الوالدين، فإنّه يميل إلى جهة واحدة تكويناً وهو الكمال المطلق، فهي مفطورة بحبّ الكمال والجمال والخير المطلق، فتتعلّق بربّها وخالقها تكوينيّاً، وبالعلم الحضوري وليس الحصولي بحصول صورة في الذهن، بل حضوراً بأن يحضر نفس النفس، والمعلوم بنفسه إلى النفس نفسه، فإنّ النفس حاضرة ومكشوفة لذات نفسها، فتعلّق النفس بصانعها وخالقها تعلّق تكويني في مقام الثبوت (ومن عرف نفسه فقد عرف ربّه) إلّا انّه يستكشف ذلك بالأمل والرجاء وبالآثار والآيات الآفاقية وإلّا نفسيّة، كما في حديث السفينة إنّها لو انكسرت في وسط البحر، وكان أحد الركاب على لوحة منها تلعب الأمواج المتلاطمة بها، فإنّ القلب يتجه إلى جهة خاصّة تنجيه من الغرق ويأمل ويرجو ذلك وهذا من نداء الفطرة الموحّدة، فتعلّق القلب بالله عند إنقطاع الأسباب وتقطّع المسبّبات، إنما هو تلبية لنداء الفطرة السليمة من شوائب المادّيات والأهواء والأغراض والتربية الفاسدة من البينة والمحيط العام أو الخاص كالأُسرة، فالقلب يرجو ربّه (دعوا الله مخلصين) في مقام الثبوت والواقع، وأمّا في مقام الاثبات والأدلّة (لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) (الزخرف/ 9)، فلا تشبع الفطرة إلّا بكمالها المطلق (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى) (النجم/ 42)، فتتلذّذ بالله عزّ وجلّ وتطمئنّ إليه (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد/ 28)، (واجعل لساني بذكرك لهجاً وقلبي بحبّك متّيماً)[1] وفي عبادة ربّها: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ) (يس/ 60)، وهذا من حقائق الفطرة (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) (الروم/ 30). (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ) (الإسراء/ 23).

قال الإمام الصادق (ع): "فطرة الإسلام" "الحنفية من الفطرة" وهذا يعني أنّه فطرهم على المعرفة، وعرّفهم في عالم الميثاق والنشأة الإنسانيّة الأولى المسمّى بعالم الذرّ وعالم ألست (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) (الأعراف/ 172)، ميثاق فطرتهم (أيذكّروهم منسي نعمته)، فإذا أحببت أن ترجع نفسك إلى ربّها راضية مرضيّة، وتدخل جنّة الله من الأسماء الحسنى، وتدخل في عباد الله المقرّبين، إنّما يتمّ ذلك لو تجلّى فيك توحيد الصدّيقين، أن تعرف الله بالله (بك عرفتك وأنت دللتني عليك) (وتردّدي في الآثار يوجب بعد المزار) (كيف يستدلّ عليك بما هو في وجوده يفتقر إليك، أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك عميت عين لا تراك عليها رقيباً)[2].

فالنفس الإنسانية متعلّقة بفطرتها بالله بالعلم الحضوري، وفي غيره بالعلم الحصولي (فارجعني إليك بكسوة الأنوار وهداية الاستبصار) فهذه العلاقة الحميمة بين النفس وربّها وبارئها عزّ وجلّ من عالم الميثاق، إلّا انّ الإنسان يغفل، أو يقلّد الآباء، حتّى ينسى عهد الله إليه.

فيطلق (عالم الميثاق) تارة ويراد به الفطرة الدالّة على الربوبيّة وتعلّق النفس بالربّ، وأخرى ما يتعلّق بالنبيّين من أخذ ميثاقهم، وما مخالفة آدم (ع) في تركه الأولى إلّا ما خالف في ميثاق الأنبياء وأولي العزم منهم (فلن تجد له عزماً بعد ما نسى) فالإنسان ينقض ميثاق الله وعهده بغفلته ونسيانه. فهل من مدّكر؟!.

الهامش:


[1]- من دعاء كميل لأمير المؤمنين عليّ (ع).

[2]- مقاطع من دعاء عرفة للإمام الحسين (ع).

المصدر: كتاب نظرات في الإنسان الكامل والمتكامل

ارسال التعليق

Top