• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

رسالة مقام الانس بالله

السيد عادل العلوي

رسالة مقام الانس بالله

قال مولانا وإمامنا أبو محمد الحسن العسكري (ع): "من استأنس بالله استوحش من الناس".
1- التكامل: الإنسان منذ نعومة أظفاره يسعى وراء كماله، وكما يتكامل في طبيعته من عالم النطفة إلى العلقة وإلى المضغة وحتى الولادة ثمّ الصبا ثمّ المراهقة والشباب والكهولة، كذلك يتكامل في روحه ونفسه الناطقة وعقله ومعنوياته، والعالم كلّه في السير التكاملي، وفي حركة العشق والحب إلى المبدأ الأوّل، والإنسان الذي انطوى فيه العالم الأكبر، في حركته الجوهرية يتكامل حتى يصل إلى قاب قوسين أو أدنى، وإلى الله المنتهى.
فمن أنس بالله فإنّه يتكامل في جميع أبعاد حياته، إذ ربّه وأنيسه كمال مطلق ومطلق الكمال، والمستأنس المحبّ يحاول أن يتشبّه بمحبوبه في صفاته وأسمائه، ومن ثمّ يكون مرآة تتجلى فيها صفات المحبوب والمعشوق ويكون الإنسان مظهراً لأسماء الله وصفاته الحسنى، فيصل إلى غاية خلقته من طريق العبادة والاخلاص، فما خلق الله الجن والأنس إلا ليعبدوه، أي ليعرفوه، فيحبّون ويأنسون بالله، وما عليه اسم الله، ويستوحشون من الكفر ويكرهون المعاصي ويفرّون ممّا في أيدي الناس من معاشيق الجهل ومصاديق الظلم ومعنونات الفسق.
وفلسفة الحياة وسر الخلقة هما التكامل من طريق العبادة المتبلورة بالمعرفة والعلم والرحمة، وإنما تكامل الإنسان في حركات ثلاثة: التفقه في الدين (الحركة العلمية)، والصبر على النائبة (الحركة الخلقية)، والتقدير في المعيشة (الحركة الاقتصادية)، كما ورد ذلك في كثير من الروايات الشريفة. فالمستأنس بالله تراه في نهاره وليله يطلب كماله وهو حركات دؤوبة ومتواصلة، فيستوحش عن السكون حتى لا يكون كالماء الراكد، الذي وإن كان عذباً وحلواً في بدايته ولكنه بعد ركوده يأسن وينتن ويتبدّل إلى ماء عفن، فلابدّ من الجريان حتى الوصول إلى البحر الموّاج، والمؤمن المستأنس بحبّ الله في شغل مستمر بذكر الله وتكميل أبعاده الإنسانية للوصول إلى ما هو المقصود من خلقته، ومثل هذا كيف لا يستوحش ممن انهمك في الملاذ والشهوات وغرّته الحياة الدنيا ونسي الله فنسي نفسه، ولا يدري لماذا خُلِق وما المقصود من خلقته؟
2- التقرّب والوصال: من أنس بالله فإنّه يحسّ في كل وجوده أنّه يتقرّب إلى خالقه وأنيسه، ويدرك لذّة الوصال في حياته وبعد مماته، ويخاف على نفسه أن ينقطع منه حبل الوصال، فيستوحش من أولئك الذين يحجبونه عن مؤنسه، فيعاشر من يذكّره الله رؤيته، ويزيد في علمه ومنطقه، ويرغّب في الآخرة عمله، ويقطع صلته مع الجاهل ومع من لم يحمل هذه الصفات، إذ قطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل كما ورد في الخبر الشريف، فمن أنس بالله تعالى استوحش عن مثل هؤلاء الناس الغافلين الساهين الناسين.
إن موسى بن عمران (ع) لما ناجى ربّه عزّ وجلّ، قال:
يا ربّ أبعيد أنت منّي فأناديك، أم قريب فأناجيك؟ فأوحى الله جلّ جلاله: أنا جليس من ذكرني.
المستأنس همّه أن يتقرب إلى ربّه ويصل إلى معبوده، فلا تراه إلا مشتغلاً بذكره وعبادته حتى ينبهر بجماله، وينصهر في كماله، ويفنى في أسمائه، ويذوب في صفاته، وينزعج ويتألم من كل ما يشغله عن ذكره وأنسه بالله، فكيف لا يستوحش من الناس؟ دخل تلميذ على شيخه العارف بالله له: أراك وحيداً، فقال العارف: بدخولك أصبحت وحيداً إذا كنت أناجي ربّي فقطعت مناجاتي...
3- علو المقام: ربنا الله سبحانه وتعالى عالي الشأن، عظيم المقام، تعالى عمّا يصفون، فهو اللطيف بعباده، وهو القادر على كل شيء، وهو الجميل يحب الجمال والعمل الجميل، فمن عشقه وأحبّه وأنس به فإنّه يرفع مقامه ويعلي شأنه، فيصل إلى مقام تصافحه الملائكة والأنبياء، ويتكلم مع الشهداء، ويستغفر له كل شيء حتى الحوت في البحر، ويكون مظهر أسمائه وصفاته، يجدّ في خشوعه وعبادته، والعبادة جوهرة كنهها الربوبيّة، فمثل هؤلاء الأولياء المقربين الذين يطيعون الله ورسوله قد وعدهم الله في علو الدرجات قاب قوسين أو أدنى:
حيث قال تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) (النساء/ 69).
(يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ...) (المجادلة/ 11).
فكيف أنّ المستأنس بالله، المطيع لله ولرسوله، المتقي المؤمن العالم المجاهد لا يستوحش من الناس الجهلاء الفسقة الذين لا همّ لهم سوى بطونهم.
4- الولاية: المستأنس بالله يتولّى الله أمره، ويدبّر حياته ومعيشته، فإنّ الله ولي الذين آمنوا في الدارين، ولكن الذين كفروا من الناس أولياؤهم ومدبرو أمورهم الطواغيت، عبّاد الشيطان الذين يوحي إليهم الشيطان المكر والخديعة والظلم والجور والفسق والفجور.
فمن أنس بالله كما الله يتولى أمره كذلك هو يوالي ربّه، ويحبّه ويعادي عدوّه، ولو كان من أقربائه فيتبرّأ من الناس الذين يعادون الله في أفكارهم وعقائدهم وسلوكهم وأعمالهم، فمن أنس بالله ووصل إلى مقام الولاية، كيف لا يستوحش من الناس؟
قال الله تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) (المائدة/ 55).
(أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ) (النساء/ 59).
(أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) (يونس/ 62-63).
قال الحواريون: يا عيسى من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا يحزنون؟
قال عيسى (ع): الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها، والذين نظروا إلى آجل الدنيا حين نظر الناس إلى عاجلها، وأماتوا منها ما يخشون أن يميتهم، وتركوا ما علموا أنّه سيتركهم، فصار استكثارهم منها استقلالاً، وذكرهم إياها فواتاً، وفرحهم بما أصابوا منها حزناً... يحبّون الله تعالى ويستضيئون بنوره، ويضيئون به، لهم خبر عجيب، وعندهم الخبر العجيب، بهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا، وبهم علم الكتاب وبه علموا، ليسوا يرون نائلاً مع ما نالوا، ولا أماني دون ما يرجون، ولا خوفاً دون ما يحذرون.
وسئل النبي (ص) عن قول الله تعالى: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)، قال: الذين يتحابّون في الله.
وسئل أمير المؤمنين علي (ع) عن الآية الشريفة فقال: هم قوم أخلصوا لله تعالى في عبادته، ونظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها، فعرفوا آجلها حين غرّ الناس سواهم بعاجلها، فتركوا منها ما علموا أنه سيتركهم، وأماتوا منها ما علموا أنّه سيميتهم.
إنّ أولياء الله تعالى كل مستقرب أجله، مكذّب أمله، كثير عمله، قليل زلله.
إنّ أولياء الله لأكثر الناس ذكراً، وأدومهم له شكراً، وأعظمهم على بلائه صبراً.
إنّ أولياء الله لم يزالوا مستضعفين قليلين منذ خلق الله آدم (ع).
إنّ أولياء الله سكتوا فكان سكوتهم ذكراً، ونظروا فكان نظرهم عبرة، ونطفوا فكان نطقهم حكمة، ومشوا فكان مشيهم بين الناس بركة، لولا الآجال التي قد كتبت عليهم لم تقرّ أرواحهم في أجسادهم خوفاً من العذاب وشوقاً إلى الثواب.
إنّ الله تعالى أخفى وليه في عباده، فلا تسستصغرنّ عبداً من عبيد الله فربّما يكون وليه وأنت لا تعلم.
إذا استحقت ولاية الله والسعادة جاء الأجل بين العينين، وذهب الأمل وراء الظهر، وإذا استحققت ولاية الشيطان والشقاوة جاء الأمل بين العينين، وذهب الأجل وراء الظهر.
إنّ الجهاد باب من أبواب الجنة، فتحه الله لخاصة أوليائه.
والدنيا مهبط وحي الله، ومتجر أولياء الله، اكتسبوا فيها الرحمة، وربحوا فيها الجنّة.
ثلاث خصال من صفة أولياء الله: الثقة بالله في كل شيء، والغناء به عن كل شيء، والافتقار إليه في كل شيء.
في الدعاء: اللّهمّ انك آنس الآنسين لأوليائك، وأحضرهم بالكفاية للمتوكلين عليك، تشاهدهم في سرائرهم، وتطّلع عليهم في ضمائرهم، وتعلم مبلغ بصائرهم، فأسرارهم لك مكشوفة، وقلوبهم إليك ملهوفة، إن أوحشتهم الغربة آنسهم ذكرك، وإن صبّت عليهم المصائب لجأوا إلى الاستجارة بك علماً بأنّ أزمة الأمور بيدك، ومصادرها عن قضائك...
فيا ترى من كان هذا حاله أما يستوحش من الناس؟
5- التشابه والسنخية: ورد في الخبر الشريف:
عبدي أطعني أجعلك مثلي – بفتح الميم – أقول للشيء كن فيكون وتقول للشيء كن فيكون.
فمن وصل إلى مقام الأنس بالله بالطاعة والعبادة والاخلاص، وحاز شرف الحضور والمشاهدة ولذة المناجاة فكيف لا تتجلّى فيه أسماء الله وصفاته، ويكون مظهراً لقدرة الله وعلمه وكمالاته، وينصبغ بصبغة لله سبحانه.
6- العصمة: حريّ بمحبّ الله أن يعتصم من الذنوب، إذ كيف من يدعي حبّ الله والأنس به يعصي الله سبحانه، فعجباً لمن ينتحل حبّ الله يعصي الله، بل من وصل إلى مقام الأنس بالله، فإنّه يعصم نفسه على الذنوب ويصل إلى مقام العصمة في الأفعال، إذ العصمة الذاتية مختصة بالأنبياء والاوصياء الأئمة الأطهار (ع).
عن رسول الله (ص): قال الله سبحانه:
إذا علمت أنّ الغالب على عبدي الاشتغال بي ثقلت شهوته في مسألتي ومناجاتي، فإذا كان عبدي كذلك فأراد أن يسهو حلت بينه وبين أن يسهو – وهذا معنى العصمة – أولئك أوليائي حقاً، أولئك الأبطال حقاً.
يقول الله عزّ وجلّ في الحديث القدسي:
إذا كان الغالب على العبد الاشتغال بي جعلت بغيته ولذّته في ذكري، فإذا جعلت بغيته ولذّته في ذكري عشقني وعشقته، فإذا عشقني وعشقته رفعت الحجاب فيما بيني وبينه وصيّرت ذلك تغالباً عليه، لا يسهو إذا سها الناس، أولئك كلامهم كلام الأنبياء، أولئك الأبطال حقّاً.
عن أمير المؤمنين علي (ع):
من ألهم العصمة أمن الزلل، كيف يصبر عن الشهوة لم تعنه العصمة، الناس مع الملوك والدنيا إلا من عصم الله.
فالمستأنس بالله كيف لا يستوحش من هؤلاء الناس؟
(وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (آل عمران/ 101)، ومن هدي إلى الصراط المستقيم فقد أنعم الله عليه ومن أنعم الله عليه فهو مع النبيين والصالحين والشهداء في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
أما موجبات العصمة كما في الروايات فمنها: الاعتبار والتصبّر على المكروه، وعن علي (ع):
إنّ التقوى عصمة لك في حياتك وزلفى لك بعد مماتك، وبالتقوى قُرنت العصمة، والحكمة عصمة والعصمة نعمة، فعصم السعداء بالإيمان وخذل الأشقياء بالعصيان من بعد اتجاه الحجة عليهم بالبيان.
وعن الإمام الباقر (ع):
إذا علم الله تعالى حسن نية من أحدٍ اكتنفه بالعصمة.
قال نوف البكالي:
رأيت أمير المؤمنين صلوات الله عليه مولياً مبادراً فقلت: أين تريد يا مولاي؟ فقال: "دعني يا نوف إن آمالي تقدّمني في المحبوب". فقلت: يا مولاي وما آمالك؟ قال: "قد علمها المأمول واستغنيت عن تبينها لغيره، وكفى بالعبد أدباً، أن لا يشرك في نعمه وأربه غير ربّه". فقلت: يا أمير المؤمنين إني خائف على نفسي من أثره، والتطلع إلى طمع من أطماع الدنيا، فقال لي: "وأين أنت عن عصمة الخائفين، وكهف العارفين؟" فقلت: دلّني عليه، قال: "لله العلي العظيم، تصل أملك بحسن تفضّله، وتقبل عليه بهمّك، واعرض عن النازلة في قلبك، فإن أجلك بها فأنا الضامن من موردها، وانقطع إلى الله سبحانه فإنّه يقول: وعزّتي وجلالي لأقطعنَّ أمل كل من يؤمّل غيري باليأس، ولأكسونه ثوب المذلّة في الناس، ولأبعدنّه من قربي، والأقطعنَّه عن وصلي...".
في المناجاة: إلهي في هذه الدنيا هموم وأحزان وغموم وبلاء، وفي الآخرة حساب وعقاب فأين الراحة والفرج؟ إلهي خلقتني بغير أمري، وتميتني بغي إذني، ووكلت فيّ عدوّاً لي له عليّ سلطان، يسلك بي البلايا مغروراً، وقلت لي استمسك، فكيف أستمسك إن لم تمسكني.
إلهي لا حول لي ولا قوة إلا بقدرتك، ولا نجاة لي من مكاره الدنيا إلا بعصمتك، فأسألك ببلاغة حكمتك ونفاذ مشيئتك أن لا تجعلني لغير جودك متعرضاً.
في مناجاة المعتمصمين: إلهي أسكنتنا داراً حفرت حُفر مكرها... بك نعتصم من الاغترار بزخارف زينتها... إلهي فزهّدنا فيها وسلّمنا منها بتوفيقك وعصمتك.. وطهّرني بالتوبة وأيّدني بالعصمة، واستصلحني بالعافية.
قال أمير المؤمنين (ع):
"بالتقوى قرنت العصمة". وهذا يعني أنّ العصمة لازمها التقوى أو بالعكس، فالمتقي يكون معصوماً، والمستأنس بالله كيف لا يكون متقياً متورعاً عن كل ما فيه غير الله، وكيف لا يتقي الناس ويستوحش منهم، وإنما يطلب الأتقياء في أطراف الأرض – كما ورد في الخبر الشريف – وهو مع الناس جسداً، ومع الله روحاً وقلباً، وناجاه الله في سرّه وعقله، فإنّه أقرب إليه من حبل الوريد، فيشاهده بقلبه وبصيرته ويتأنس بذكره وجماله.
وجماع التقوى في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ) (النحل/ 90).
7- الذكر: مقام الذاكرين لله مقام شامخ عظيم، وإنّ من يأنس بربّه يأنس بذكره، فإن اشتاق إلى كلامه تلا القرآن الكريم، وإن اشتاق أن يتكلم معه قام في المحراب مصليّاً، ويسأل الله أن يجعل قلبه بحبّه متيماً، ولسانه بذكره لهجاً، ويستوحش من الغفلة عن ذكر الله، ويستوحش ممّن يغفّله من الناس عن ذكر الله، وإذ أنس بالله تعالى استوحش من الناس.
عن رسول الله (ص): "عليك بمجالس الذكر".
"ارتعوا في رياض الجنة، قالوا يا رسول الله، وما رياض الجنة؟ قال: مجالس الذكر".
"ما قعد عدة من أهل الأرض يذكرون الله إلّا قعد معهم عدّة من الملائكة".
في وصية لقمان:
اختبر المجالس على عينك، فإن رأيت قوماً يذكرون الله عزّ وجلّ فاجلس معهم، فإنك إن تك عالماً ينفعك علمك ويزيدوك علماً، وإن كنت جاهلاً علّموك ولعلّ الله يظلهم برحمةٍ فتعمّك معهم.
عن الإمام الصادق (ع):
ما اجتمع قوم في مجلس لم يذكروا الله ولم يذكرونا إلا كان ذلك المجلس حسرة عليهم يوم القيامة.
وفي الدعاء: واجعلنا من الذين اشتغلوا بالذكر عن الشهوات... حتى جالت في مجالس الذكر رطوبة ألسنة الذاكرين.
(الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد/ 28).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (المنافقون/ 9).
في الروايات: الذكر لذة المحبين. و(في الدعاء) وأستغفرك من كل لذة بغير ذكرك، ومن كل راحة بغير أنسك، ومن كل سرور بغير قربك، ومن كل شغل بغير طاعتك، إلهي ما ألذ خواطر الإلهام بذكرك على القلوب، وما أحلى المسير إليك بالأوهام في مسالك الغيوب، اللّهمّ افتح مسامع قلبي لذكرك، وارزقني طاعتك وطاعة رسولك وعملاً بكتابك.
الذكر مجالسة المحبوب وهو أفضل الغنيمتين، وشيمة المتقين، وسجيّة كل محسن، ولذة كل موفق، وأحب الأعمال إلى الله (اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا) (الأحزاب/ 41-42).
عن رسول الله: "ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من الدنيا والدرهم، خير لكم من أن تلقوا عدوّكم فتقتلونهم ويقتلونكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ذكر الله عزّ وجلّ كثيراً".
قال رجل للنبي: أحب أن أكون أخصّ الناس إلى الله تعالى؟ قال: "أكثر ذكر الله تكن أخصّ العباد إلى الله تعالى".
عن الإمام الصادق (ع):
ما من شيء إلا وله حدّ ينتهي إليه إلا الذكر فليس له حدّ ينتهي إليه، فرض الله عزّ وجلّ الفرائض فمن أدّاهن فهو حدّهن... إلا الذكر فإنّ الله عزّ وجلّ لم يرض منه بالقليل ولم يجعل له حدّاً ينتهي إليه، ثم تلا هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا) (الأحزاب/ 41).
ومن ذكر الله في السرّ فقد ذكر الله كثيراً، فمداومة الذكر خلصان الأولياء، ومن اشتغل بذكر الله طيّب الله ذكره.
ومن دعاء علّمه أمير المؤمنين لنوف البكالي:
إلهي من لم يشغله الولوع بذكرك، ولم يزوه السفر بقربك، كانت حياته عليه ميتة، وميتته عليه حسرة.
إلهي وألهمني ولهاً بذكرك إلى ذكرك، وهمني إلى روح نجاح أسمائك ومحلّ قدسك...
أسألك بحقك وقدسك وأعظم صفاتك وأسماؤك أن تجعل أوقاتي من الليل والنهار بذكرك معمورة وبخدمتك موصولة وأعمالي عندك مقبولة، حتى تكون أعمالي وأورادي كلها ورداً واحداً وحالي في خدمتك سرمداً.
عن الإمام الباقر (ع):
لا يزال المؤمن في صلاة ما كان في ذكر الله قائماً كان، أو جالساً، أو مضطجعاً، إنّ الله تعالى يقول: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا...) (آل عمران/ 191).
الذكر مفتاح الصلاح، ومن عمر قلبه بدوام الذكر حسنت أفعاله في السرّ والجهر. ومداومة الذكر قوة الأرواح ومفتاح الصلاح، وحياة القلوب ونور العقول، وجلاء الصدور تُستنجح به الأمور، ويُستنار به اللّب.
وفي الحديث القدسي: أيما عبد اطّلعت على قلبه فرأيت الغالب عليه التمسك بذكري، تولّيت سياسته وكنت جليسه ومحادثه وأنيسه.
ذكر الله ينير البصائر ويؤنس الضمائر فهو مفتاح الأنس، وذكر الله مؤانسة، وإذا رأيت الله يؤنسك بذكره فقد أحبّك، وإذا رأيت الله يؤنسك بخلقه وبوحشك من ذكره فقد أبغضك، فالذكر مطردة الشيطان ودعامة الإيمان وأمان من النفاق، يثمر المحبة والعصمة.
وفي الدعاء: وقلت قولك الحق (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) (البقرة/ 152)، فأمرتنا بذكرك ووعدتنا عليه أن تذكرنا تشريفاً لنا وتفخيماً وإعظاماً، وها نحن ذاكروك كما أمرتنا، فانجز لنا ما وعدتنا، يا ذاكر الذاكرين.
8- الاخلاص: يقابله الرياء والعمل لغير الله، ومن أنس بالله كان مع الصادقين المخلصين، وأدرك أنّ العمل الطيب المخلص يصعد إلى ربّه، ومن أشرك في ذكر ربّه وعبادته، فإنّ الله يدع تلك العبادة لغيره، إذ لا يقبل إلا من المخلصين، الذين لا يتسلط عليهم الشيطان في غوايتهم وإضلالهم وانحرافهم، فهم أحبّاء الله، أنيسهم وحبيبهم الله سبحانه، عملوا لله باخلاص، وذكروا الله باخلاص، وأحبّوا الله باخلاص، وشاهدوا الله باخلاص، فمبدأهم الاخلاص، ومنتهاهم الاخلاص، وحياتهم ومماتهم الاخلاص (إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام/ 162)، اتقوا الله حق تقاته وحازوا رتبة الاخلاص فأخلصوا فخلصوا.
في القرآن الكريم في قصة الشيطان ورجمه: (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (ص/ 82-83).
عن رسول الله (ص):
"قال الله تعالى: الاخلاص سرّ من أسراري استودعته قلب من أحببت من عبادي".

بالإخلاص تتفاضل مراتب المؤمنين. واعمل لوجه واحد يكفِك الوجوه كلّها.
عن الإمام الصادق (ع): ولابدّ للعبد من خالص النية في كل حركة وسكون لأنّه إذا لم يكن هذا المعنى يكون غافلاً، والغافلون قد وصفهم الله تعالى فقال: (أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) (الأعراف/ 179)، وقال: (أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ).
وعن أمير المؤمنين (ع):
"الإخلاص أشرف نهاية، غاية الدين، عبادة المقرّبين، ملاك العبادة، أعلى الإيمان، شيمة أفاضل الناس، وفي الاخلاص يكون الخلاص، طوبى لمن أخلص لله العبادة والدعاء، ولم يشغل قلبه بما ترى عيناه، ولم ينسَ ذكر الله بما تسمع أذناه، ولم يحزن صدره بما أعطى غيره. وتصفية العمل خير من العمل، والإبقاء على العمل حتى يخلص أشد من العمل، أخلص قلبك يكفك القليل من العمل. العمل كلّه هباء إلا ما أخلص فيه. ضاع من كان له مقصد غير الله".
فيما ناجى الله تعالى موسى:
"يا موسى: ما أريد به وجهي فكثير قليله، وما أريد به فقليل كثيره. طوبى للمخلصين، أولئك مصابيح الهدى، تنجلي عنهم كل فتنة ظلماء".
أين الذين أخلصوا أعمالهم لله، وطهّروا قلوبهم لمواضع نظر الله؟
العلماء كلّهم هلكى إلا العاملون، والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر.
عن الرسول الأكرم (ص): إذا عملت عملاً فاعمل لله خالصاً لأنّه لا يقبل من عباده الأعمال إلا ما كان خالصاً.
ليست الصلاة قيامك وقعودك، إنما الصلاة اخلاصك وأن تريد بها وجه الله.
(قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لأنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) (الزمر/ 11-12).
وتمام الاخلاص تجنب المعاصي والمحارم، وأن لكل حق حقيقة، وما بلغ عبد حقيقة الاخلاص حتى لا يحبّ أن يحمد على شيءٍ من عمل لله. فالعمل الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلا الله عزّ وجلّ.
أما علامة المخلص فأربعة: يسلم قلبه، وتسلم جوارحه، وبذل خيره، وكفّ شرّه، ولا يكون العابد عابداً لله حق عبادته، حتى ينقطع عن الخلق كلّه إليه، فحينئذٍ يقول هذا خالص لي فيتقبّله بكرمه. والزهد سجيّة المخلصين.
الاخلاص ثمرة العبادة واليقين والعلم، وأوّله اليأس ممّا في أيدي الناس، ومن رغب فيما عند الله أخلص عمله، وكيف يستطيع الاخلاص من يغلبه هواه، وما أخلص عبد لله عزّ وجلّ أربعين صباحاً إلا جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه.
قال الله عزّ وجلّ في الحديث القدسي:
لا أطلع على قلب عبد فأعلم منه حب الإخلاص لطاعتي لوجهي، وابتغاء مرضاتي إلا توليت تقويمه وسياسته. إنّ المؤمن ليخشع له كل شيء ويهابه كل شيء، إذا كان خلصاً لله أخاف الله منه كل شيء حتى هوام الأرض وسباعها وطير السماء. والمخلص حريّ بالإجابة، وبالاخلاص ترفع الأعمال، وفي اخلاص النيات نجاح الأمور، ومن أخلص بلغ الآمال.
في الدعاء: اللّهم صلّ على محمد وآل محمد واجعلنا ممّن جاسوا خلال ديار الظالمين، واستوحشوا من مؤانسة الجاهلين، وسموا إلى العلوّ بنور الاخلاص...

- خلاصة الكلام:
من أنس بالله تعالى استوحش من الناس، ومن أنس بالواحد استوحش من الكثرة في أيدي الناس، ومن أنس بعلم الله استوحش من جهل الناس، فهم مع الناس لا معهم، أجسادهم مع الناس وأرواحهم تعلقت بالمأ الأعلى، عظم الخالق في أعينهم، وصغر ما دونه في أنفسهم، عرفوا الله فأحبّوه، وحضروا حضيرة قدسه، وشاهدوا جمال جميلة، في الكون وفي صنعه، فهم أهل الله وحزبه، وتسهّلت لهم سبل تكاملهم، فتقربوا إلى ربّهم وفازوا بلذة الوصال، وعلو المقام، وتولّى الله أمرهم بخير وعافية، ومنحهم القدرة لمّا حملوا السخيّة، فاعتصموا من الذنوب والمعاصي والآثام وما لا يرضي الربّ جلّ جلاله، فذكروا الله، وأخلصوا في أعمالهم ونواياهم.
هذا ولا تنحصر لوازم الأنس بالله بما ذكرناه، بل هناك لوازم أخرى كما لكل مقام يمكن أن يتصور له لوازم، فمقام المعرفة يستلزمها الاطاعة لله ولرسوله ولمن في خط الأنبياء من الأولياء والعلماء، ولازم الاطاعة العلم والعمل بالأركان وبجميع ما جاء في الشرع المقدس من اتيان الواجبات وترك المحرمات، كما أنّ مقام الحبّ يستلزم اتيان المستحبات وترك المكروهات، ومقام الرضا وصنع الجميل يستلزم الصبر على البلايا، كما أنّ مقام التكامل يستلزم ذلك كما يستلزم الحركة العلمية والحركة الاقتصادية، إذ كما ورد في الخبر الشريف:
الكمال كل الكمال التفقه في الدين، والصبر على النائبة، والتقدير في المعيشة.
وكذلك باقي المقامات العرفانية في البر والسلوك يستلزمها مقامات أخرى وحالات عامّة وخاصة.
والمقصود إقامة البرهان والدليل على قول مولانا العسكري عليه السلام كما تبين ذلك، بأن من أنس بالله الصمد استوحش من الناس، لا من خلق الله، حتى يعتزل المجتمع وقد أمر الله بهداية نفسه وتهذيبها ثمّ هداية الناس وامامتهم، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وترويج الدين وإقامة حكومة العدل واصلاح المجتمع.
في الروايات الشريفة:
لا يؤنسنك إلا الحق ولا يوحشنَك إلا الباطل.
اللّهمّ انك آنس الآنسين لأوليائك... إن أوحشتهم الغربة آنسهم ذكرك، وإن صبت عليهم المصائب لجأوا إلى الاستجارة بك...

المصدر: مجلة نور الإسلام/العددان39و40 لسنة1993م

ارسال التعليق

Top